ولد الإمام أبو حنيفة النعمان سنة "80 هـ/699م"، بالكوفة وهو أفغانى الأصل، حيث تعود أصوله إلى كابل، أبوه فارسى النسب اسمه- ثابت بن زوطى، وكان جده من أهل كابل وهى مدينة بأفغانستان، التى كانت تابعة لفارس، وقد أُسر جده عند فتح العرب لبلاد فارس، ثم أسلم وأُعتق ثم ولد أبو حنيفة النعمان حراً ومن قبله ولد أبوه حراً.
كانت الكوفة آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، وفى هذه المدينة قضى النعمان معظم حياته متعلماً وعالماً، وكان أبوه ثابت قد التقى وهو صغير بالكوفة بالإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقد وضع الإمام على رضى الله عنه كفه على رأس أبيه ودعا له بالبركة فيه وفى ذريته، وفى سن الصبى وحتى سن الثانية والعشرين كان يعمل النعمان تاجر حرير، تلك المهنة التى عملها مع أبيه وهو صغير، وظل يشتغلها حتى رآه الفقيه الكبير عامر الشعبى، ولمح ما فيه الذكاء ورجاحة العقل فأوصاه بمجالسة العلماء، والنظر فى العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، وكان من كثرة اهتمامهِ بأن لا يضيع عنه ما يتلقاه من العلم يقضى الوقت فى الطواف على المجالس حاملاً أوراقه وقلمه، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم فى بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه ولزم دروس الفقه عند حماد بن أبى سليمان.
نشأ أبو حنيفة فى مجتمع يعيش فيه العرب والسريان والفرس وأبناء خراسان وبلاد ما وراء النهر وتلتقى فيه فلسفة اليونان بحكمة الفرس وتتحاور فيه فى العقائد مذاهب النصرانية وآراء الشيعة والخوارج والمعتزلة، فقد عاش عصرين كانت البلاد الإسلامية تفيض فيهما بمسائل فى الفكر الدينى عقيدة وفقها وسياسة وعلما وحياة اجتماعية، وتفيض بحضارات أمم وعلومها وبشعوب مختلفة العادات والتقاليد والأعراف وبفتن الصراع الدينى بين السنة والشيعة والخوارج والصراع الاجتماعى بين الأمويين والعلويين والعباسيين، ثم بين العباسيين والعلويين، وهذا ما ساعد الإمام أبو حنيفة على التوسع فى العلم والقراءة فاتسع عقله لكل لاستيعاب ودراسة كل هؤلاء.
ساعد الإمام أبو حنيفة أيضًا على العلم والعلوم أنه كان من الموالى، "غير العرب _ وغالبا كانوا خدمًا وحلفاء، وكان معظمهم ينتسب إلى أمم عريقة ذات ثقافات وعلوم وبفقدانهم سلطانهم فى بلادهم فقد لجأوا إلى العلم والمعرفة، لتعويض حرمانهم الوصول إلى الكمال عن طريق السلطة التى انشغل بها العرب فى ذلك العصر"، فكان للعرب السيادة والسلطان وكان عليهم الحرب والنزال فشُغلوا عن الدرس والبحث، لذلك تقدم عليهم فى ذلك الموالى الذين بلغوا فى العلم وسيطروا به على الفكر العربى الإسلامى تاركين للعرب الغُلب المادى وكان أبو حنيفة النعمان واحداً من الموالى، إلا أن هؤلاء تعرضوا لكثير من الاضطهاد خاصة عندما قامت ثورات العلويين ضد الأمويين، والتى استغرقت عشر سنوات عانى فيها العلويون من الأمويين العذاب، وتكبد فيها الأمويون من العلويين المشاق وكانت ثورات يساندها العلماء والفقهاء فى السر بالمال وفى العلن بالتأييد، واشتدت الفتن ونال أبو حنيفة قسطا من الظلم وسُجن وجُلد ثم أفرج عنه، وأعد نفسه وأهل بيته ودوابه للرحيل لسفر طويل ليلا إلى مكة سنة 130 هـ، وأقام بها ست سنوات ولحق به تلاميذه الحريصون على علمه ولم يستقر أبو حنيفة فى الكوفة إلا فى زمن أبى جعفر المنصور سنة136 هـ حين استقرت الأحوال بالعراق.
بعد رحيل أبى حنيفة عن الدنيا عام 150 هـ اكتسب مذهبه نفوذاً فى الدولة العباسية بعد اختيار الخلفاء للقضاة من تلاميذ أبو حنيفة وأئمته والمجتهدين فيه، وزاد هذا النفوذ بنشاط علمائه وعملهم على نشره، وشاع فى أكثر البقاع الإسلامية فى مصر والشام وبلاد الروم والعراق وما وراء النهر، وفى الهند والصين حيث لا منافس له ولا مزاحم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة