فقهاء التنوير.. الحلقة 5
الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان.. محرر المرأة وفقيه الحرية والاستقلال.. كان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء وتزويج نفسها بنفسها دون ولى
الثلاثاء، 24 يوليو 2012 10:28 ص
الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان
بقلم وائل السمرى - رسوم : أحمد خلف
جملة واحدة قالها الإمام الشافعى عن الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان تظهر لنا مكانة هذا الرجل وعلو قدره بين أقرانه ومعاصريه وأكبر فقهاء عصره، قال الإمام الشافعى عنه «الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة» فهو المعلم واضع أسس التفقه فى الدين، وهو النبيه الذكى سريع البديهة الذى ضرب بأخلاقه وسلوكياته وتجاربه أعظم المثل لما يجب أن يكون عليه من يتحدث فى شؤون الفقه، وهو التلميذ النجيب لبيت النبوة، تلميذ الإمام جعفر الصادق، وجليس الإمام محمد الباقر، وهو المدقق الرائد والباحث النابه، والعالم بفضل أولى الفضل.
أجمع معظم فقهاء عصره على عبقريته وإخلاصه لكنه مع ذلك لم يسلم من تربص المتربصين وتنطع المتنطعين، فاتهموه بالكفر وقال أحدهم طعنا فيه وفى تلاميذه بأنهم «خارجون على ولى الأمر ومرتدون عن الإسلام، وأنه إن يقال إن بالحى خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبى حنيفة» كل ذلك كيدا له وغيرة منه ومن مكانته، ذلك لأنه ما كان يسلم عقله لسلطان، ولا يسلم قلبه لجاه أو مال، كما أنه لم يكن يدعى لنفسه الكمال، ولا يعتقد أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، وكان يردد دائما: «قولنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا» ويبين أبوحنيفة منهجه فى الفقه والبحث فيقول «إنى آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبى والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب، فلى أن أجتهد كما اجتهدوا» وحينما احتج الناس عليه بقول التابعين قال لهم: التابعى رجل وأنا رجل.
وكأساتذته العظام الذين كانوا دائما ما يحسنون إلى من يسيئون إليهم ويقارعون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان مؤمنين بحرية الفكر والعقيدة محتكمين إلى الحوار الهادئ العقلانى الذى لا يظهر فيه عنف لفظى أو مادى، كان أبوحنيفة يقارع خصومه الفكريين دون أن يضيق بهم أو يسلط عليهم سطوة لسانه أو فتاواه، وكانت ثقته فى نفسه وعلمه ورجاحة عقله هى خير معين له فى التغلب على الخصوم، ويُروَى أن جماعة من الخوارج اقتحمت عليه مجلسه وسط أنصاره، وكان الخوارج يتبعون العنف منهجا، لا يتورعون عن قتل من يخالفهم ومن يقول بأن الإمام على كان على صواب حينما قبل التحكيم، وكان الإمام من هؤلاء الذين يؤيدون الإمام على، فخيّره شيخ الخوارج بين ما أسماه «التوبة» وهو الرجوع عن تأييد على من وجهة نظره، وبين أن يقتل، فسأله الإمام أن يناظره فرضى، وقبل المناظرة، سأله أبو أبوحنيفة: ماذا لو اختلفنا فى المناظرة؟ فقال له الرجل: نحكّم رجلا بيننا، فضحك أبوحنيفة وقال للرجل: ها أنت تجيز التحكيم لعلى برضاك أن تحكّم رجلا إن اختلفت معى.
ويروى عنه أيضا أنه كان واسع الأفق مع العصاة المذنبين، وكان له جار سكير، يدمن الخمر، يظل يشرب طوال الليل حتى يسكر، وإذا ما سكر غنّى بصوته الجهير وأنشد الشعر، وكان هذا الصوت يفسد على أبى حنيفة ليله وعبادته وتأمله وتفقهه، لكنه برغم ذلك لم يفكر فى تعنيفه ولا استعداء القوم عليه، وكأنه كان ينظر إليه باعتباره مبتلى، وذات ليلة كان الإمام كعادته يقيم الليل لكنه لاحظ أن صوت الفتى لم يظهر، ولما طلع الصبح عليه سأل عنه فعرف أن الوالى سجنه، فذهب إلى الوالى وأخرج الفتى من محبسه، وفى الطريق داعبه قائلا: يا فتى ماذا كنت تغنى فى جوف الليل؟ فقال له الفتى كنت أقول «أضاعونى وأى فتى أضاعوا.. ليوم كريهة وسداد ثغر»، فسأله: وهل أضعناك؟ فقال: «لا والله بل حفظتنى حفظك الله ورعاك» ومنذ ذلك اليوم لزم الفتى أبا حنيفة وصار من حاضرى درسه ومجلسه حتى أصبح فقيها عالما من المشهود لهم بالفلاح والصلاح.
وبرغم سماحة الإمام وميله الدائم لدفع التناحر ونبذ الفرقة، كانت هناك فرقة من الفقهاء دائمة الكيد له والتربص به، وكحال أيامنا هذه كانت هناك فرقة من الفقهاء المناصرين لسلاطين الدولة الأموية بكل ظلمها وظلاميتها، وهم من يصح أن يطلق عليهم لفظ «المتحولون» الذين ما أن أيقنوا من هلاك الأمويين وزوال ملكهم حتى تحولوا إلى مناصرة سلاطين الدولة العباسية، ومن هؤلاء حفظ لنا التاريخ اسم القاضى ابن أبى ليلى والقاضى شبرمة، وهم من لزموا سلاطين بنى عباس وأصبحوا أعضاء فى مجلسهم الاستشارى بعد أن كانوا أولياء لبنى أمية ومعاونيهم، بل قد زينوا لبنى العباس البطش بمعارضيهم والفتك بهم وأعانوهم على ذلك بتخريجات فقهية مريضة، وقبول أحاديث موضوعة، مزينين للناس حب الزهد وترك السياسة ليتمتع الحاكم وحده بالطيبات تاركا الناس فى ظلمات الفقر والمرض، لكن الإمام الفارس لم يكن ليترك هؤلاء ليعبثوا بعقول الناس ويفسدوا الراعى والرعية، فكان يفند آراءهم ويبطل فتاواهم أمام الناس.
وحدث أن حكم القاضى «ابن أبى ليلى» بجلد امرأة مجنونة وهى واقفة لأنها سبت رجلا قائلة: «يا ابن الزانين» فأقام عليها حدين فى بيت الله حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم، وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ ابن أبى ليلى، فقد جلدها واقفة والنساء تضرب قعودا، وأقام الحد فى المسجد والحدود لا تقام فى المساجد، وضرب لأم الرجل حدا ولأبيه حدا وهذا لا يجوز، ولو أن رجلا قذف جماعة فهل عليه الحد بعدد هذه الجماعة؟ وعليه فإن الجمع بين الحدود لا يجوز، كما أن أبوى الرجل لم يحضرا فيدعيا، وخلاف هذا كله فالمرأة مجنونة والمجنونة ليس عليها حد، ولما بلغ الأمر «ابن أبى ليلى» ذهب إلى السلطان واشتكى أبا حنيفة، وقال له إن الإمام أهانه وإهانة القاضى إهانة للخليفة ذاته لأنه من عينه، فأصدر الخليفة أمرا بألا يعلق الإمام على أحكام القضاء، مانعا إياه من الفتوى، فامتثل الإمام لحكم الخليفة لكنه انتهز احتياج الخليفة إليه وطلبه منه الفتوى فامتنع عن إجابته إلا أن يأذن له فى أن يفتى للناس جميعا فأذن له.
كان هذا عهد الإمام بالخليفة العباسى، فمن ناحية لا يمكنه منه، ومن ناحية أخرى لا يريحه بالتمهيد له، وحدث أن تشاجر الخليفة مع امرأته لأنه كان يريد أن يتزوج عليها، فقال لها من ترتضيه ليحكم بيننا، فلم ترتض إلا الإمام، ولما حضر أبوحنيفة، قال له الخليفة: أوليس من حقى أن أتزوج عليها كما أباح لى الشرع؟ فقال له الإمام: إنما أحل الله هذا الأمر لأهل العدل، حيث قال «وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» فينبغى علينا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه، فسكت الخليفة وارتضى حكم الإمام، ولما ذهب إلى داره وجد زوجة الخليفة قد أرسلت إليه خادما وجارية حسناء وأموالا وحمارا وثيابا فاخرة نادرة، فشكرها وأرسل لها السلام ورد إليها هديتها قائلا: إنما ناضلت عن دينى وقمت بذلك المقام لوجه الله.
عاش أبو حنيفة هكذا دائما يراعى الله فى آرائه، ويستغنى بأموال تجارته عن عطايا الملوك وهداياهم، وهذا ما جعله إماما لاستقلال الرأى، ولأن أباحنيفة كان تاجرا، فقد كان على دراية كبيرة بدقائق التجارة ومنازعاتها، وقد انعكس ذلك على فقهه الذى تميز بالتيسير دائما على أهل التجارة والصناعة والمال من دون أن يخالف شريعة ولا أن يتعارض مع نص، ولهذا تراه مثلا يبيح أن يتزكى الرجل بترك ديونه المستحقة على الفقراء، كما أنه كان يؤمن بحرية الإنسان فى أمواله وأفعاله وتجارته، ولهذا فقد حرم الحجر على السفيه إذا ما تجاوز سن الخامسة والعشرين، كما أنه حرم الحجر على المدين وفاء لدينه لانتفاء شرط الرضا من المدين، كما أجاز ألا يقرأ الناس من خلف الإمام تخفيفا عليهم، وكان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة مفتيا بأن من حقها تولى القضاء مستشهدا بواقعة تولية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الحسبة لامرأة، وقال: إن من حق المرأة أن تزوج نفسها بنفسها دون ولى لأن السيدة عائشة راوية حديث «لا زواج إلا بولى» زوجت ابنة أخيها فى غيابه، وغلّب دائما اليقين على الشك بأن أجاز لمن توضأ وشك فى أنه فعل ما ينقض الوضوء، السير إلى الصلاة لأن الشك لا يرتقى إلى اليقين، كما حرم تكفير المسلمين وأثّمه حتى لو ارتكب المسلم المعاصى، ولم يكن بذلك يفتح باب الذنب، وإنما كان يفضل أن يظل باب المغفرة مرحّبا بالتوابين.
غير أن كل تلك الفتاوى الصادمة للمجتمع وقتها لم تكن هى التى جلبت عليه خصومة العلماء ولا السلاطين، فما كان لأحد أن يثبت أمام مناظرة أبى حنيفة، ولهذا اكتفى خصومه بالشتم والسب والكيد، موغلين صدر الخلفاء مدعين تشييع الإمام لما رأوه من تبجيله لأئمة آل البيت وهى التهمة التى لم ينفها الإمام ولم يتبرأ منها بل على العكس أحبها وأكدها قولا وفعلا، فقد ناصر ثورة الإمام زيد بن على زين العابدين ضد الخليفة الأموى هشام بن عبدالملك بالقول والجهد والعمل والمال، وكان يود لو حارب فى صفه وما منعه إلا أنه كان مستأمنا على ودائع الناس ولم يجد من يترك عنده أماناته، وزيادة على هذا ناصر أبوحنيفة ثورة الطالبى «محمد النفس الزكية» ضد العباسيين، وبكى مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور فى إخماد الثورة، ولما مات عبدالله بن الحسن شيخ أبى حنيفة ووالد محمد النفس الزكية فى السجن تحت آثار التعذيب بكاه أبو حنيفة فى حلقته معلنا أن واحدا من أفضل أهل الزمان قد استشهد فى سجنه.
واستمر أبوحنيفة الذى لقبه الفقهاء فيما بعد بـ«الإمام الأعظم» على حاله هذه، لا يمالئ حاكما ولا ينافق سلطانا، متحديا الخليفة المنصور بفتاواه التى زادت من غيظ خصومه، فأفتى ببطلان شهادة وزير الخليفة الأول، وقال إن الوزير يقول للخليفة أنا عبدك، فإن صحت مقولته فلا شهادة لعبد، وإن كذبت فلا شهادة لكاذب، وحدث أن طلب الخليفة منه فتوى بشأن أهل الموصل الذين كانوا قد تعهدوا للخليفة بعدم الخروج عليه، قائلين له إن خرجنا عليك فحلال عليك دمنا وأرواحنا وأموالنا، ولما نقض الموصليون عهدهم أفتى فقهاء السلطان له باستباحة دمهم، لكن أباحنيفة عارضه قائلا: دمهم حرام عليك وإباحتهم أرواحهم وأموالهم غير جائزة لأنهم أباحوا ما لا يملكون، وسأله: لو أن امرأة أباحت لك نفسها دون عقد أتحل لك؟ فقال له الخليفة: لا، فقال: هو نفس الأمر، فكف عن أهل الموصل ووجه جيوشك لحماية الثغور بدلا من أن تضرب بها صدور المسلمين.
ولما رأى الخليفة عناد أبى حنيفة وصلابته أراد أن يستميله بالمال والمناصب فعرض عليه القضاء فرفض، ولما وجده متمسكا برأيه حبسه وظل يضربه بالسياط ويعذبه وهو شيخ فى السبعين ليقبل المنصب والمال لكنه تمسك برأيه وظل على موقفه حتى مات، ويقال إن الخليفة دس له السم فى السجن، ويقال إنه أفرج عنه قبيل موته لتدهور حالته، فمات بعدها مباشرة من أثر التعذيب، وبرغم قوة أبى حنيفة وجلده وثباته أمام السلاطين والملوك والكيادين لكن الأثر قد حفظ لنا ما يؤكد رقة قلبه ورهافة حسه وطيبة منبته، ففى ليلة من ليالى السجن فى إحدى مرات حبسه، وبعد فترة تعذيب أخمدت روحه وأرهقت جسده، وبعد ما ناولته الزبانية صنوف العذاب، جلس أبوحنيفة فى محبسه صامدا، ثم سرعان ما انخرط فى البكاء منهارا، فقال له جاره فى السجن: ما الذى يبكيك فقال له الإمام: والله ما أوجعتنى السياط وإنما تذكرت أمى فآلمتنى دموعها على.
◄فقهاء التنوير: عمر بن الخطاب.. «العقل» أساس الملك .. سار على هدى الرسول القائل: استفتِ قلبك.. وكان دائم إعمال العقل سريع إبداء الرأى فأيده الله من فوق سبع سماوات
◄فقهاء التنوير: الإمام على بن أبى طالب.. مدينة العلم وراية العدل .. اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا وهو القائل: رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا
◄الإمام زيد بن على زين العابدين.. قاهر الفتن وموحد الأمم.. حارب متطرفى الشيعة وكان يذهب إلى من يدعون ألوهية الإمام على ويجادلهم أمام أنصارهم ليكشف كذبهم وهاجم العلماء الذين ينافقون الحاكم
◄الإمام جعفر الصادق.. معلم الأئمة..اشتهر عنه حب صحابة رسول الله أجمعين وكان يقول «من لا يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة»
◄الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان.. محرر المرأة وفقيه الحرية والاستقلال.. كان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء وتزويج نفسها بنفسها دون ولى
◄الإمام مالك.. فقيه المدينة وراعى مصلحة المسلمين..رغم علمه الغزير كان يكثر من الرد على أسئلة الناس قائلا: لا أدرى.. وكان يقول مستنكرا: إنى بشر أخطئ وأرجع وتكتبون كل ما أقوله!
◄الإمام المصرى الليث بن سعد.. راوى أحاديث الجمال والمحبة.. اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذين أمروا بهدم بعض الكنائس فعزله الخليفة عن الولاية وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة وإضافة كنائس جديدة
◄وائل السمرى يكتب : فقهاء التنوير.. الإمام أحمد بن حنبل.. ظلموه حيا وأساءوا له ميتا.. انفرد برواية حديث شرب معاوية بن أبى سفيان الخمر بعد تحريمها ولم يكن يخشى فى الحق لومة لائم
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جملة واحدة قالها الإمام الشافعى عن الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان تظهر لنا مكانة هذا الرجل وعلو قدره بين أقرانه ومعاصريه وأكبر فقهاء عصره، قال الإمام الشافعى عنه «الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة» فهو المعلم واضع أسس التفقه فى الدين، وهو النبيه الذكى سريع البديهة الذى ضرب بأخلاقه وسلوكياته وتجاربه أعظم المثل لما يجب أن يكون عليه من يتحدث فى شؤون الفقه، وهو التلميذ النجيب لبيت النبوة، تلميذ الإمام جعفر الصادق، وجليس الإمام محمد الباقر، وهو المدقق الرائد والباحث النابه، والعالم بفضل أولى الفضل.
أجمع معظم فقهاء عصره على عبقريته وإخلاصه لكنه مع ذلك لم يسلم من تربص المتربصين وتنطع المتنطعين، فاتهموه بالكفر وقال أحدهم طعنا فيه وفى تلاميذه بأنهم «خارجون على ولى الأمر ومرتدون عن الإسلام، وأنه إن يقال إن بالحى خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبى حنيفة» كل ذلك كيدا له وغيرة منه ومن مكانته، ذلك لأنه ما كان يسلم عقله لسلطان، ولا يسلم قلبه لجاه أو مال، كما أنه لم يكن يدعى لنفسه الكمال، ولا يعتقد أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، وكان يردد دائما: «قولنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا» ويبين أبوحنيفة منهجه فى الفقه والبحث فيقول «إنى آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبى والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب، فلى أن أجتهد كما اجتهدوا» وحينما احتج الناس عليه بقول التابعين قال لهم: التابعى رجل وأنا رجل.
وكأساتذته العظام الذين كانوا دائما ما يحسنون إلى من يسيئون إليهم ويقارعون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان مؤمنين بحرية الفكر والعقيدة محتكمين إلى الحوار الهادئ العقلانى الذى لا يظهر فيه عنف لفظى أو مادى، كان أبوحنيفة يقارع خصومه الفكريين دون أن يضيق بهم أو يسلط عليهم سطوة لسانه أو فتاواه، وكانت ثقته فى نفسه وعلمه ورجاحة عقله هى خير معين له فى التغلب على الخصوم، ويُروَى أن جماعة من الخوارج اقتحمت عليه مجلسه وسط أنصاره، وكان الخوارج يتبعون العنف منهجا، لا يتورعون عن قتل من يخالفهم ومن يقول بأن الإمام على كان على صواب حينما قبل التحكيم، وكان الإمام من هؤلاء الذين يؤيدون الإمام على، فخيّره شيخ الخوارج بين ما أسماه «التوبة» وهو الرجوع عن تأييد على من وجهة نظره، وبين أن يقتل، فسأله الإمام أن يناظره فرضى، وقبل المناظرة، سأله أبو أبوحنيفة: ماذا لو اختلفنا فى المناظرة؟ فقال له الرجل: نحكّم رجلا بيننا، فضحك أبوحنيفة وقال للرجل: ها أنت تجيز التحكيم لعلى برضاك أن تحكّم رجلا إن اختلفت معى.
ويروى عنه أيضا أنه كان واسع الأفق مع العصاة المذنبين، وكان له جار سكير، يدمن الخمر، يظل يشرب طوال الليل حتى يسكر، وإذا ما سكر غنّى بصوته الجهير وأنشد الشعر، وكان هذا الصوت يفسد على أبى حنيفة ليله وعبادته وتأمله وتفقهه، لكنه برغم ذلك لم يفكر فى تعنيفه ولا استعداء القوم عليه، وكأنه كان ينظر إليه باعتباره مبتلى، وذات ليلة كان الإمام كعادته يقيم الليل لكنه لاحظ أن صوت الفتى لم يظهر، ولما طلع الصبح عليه سأل عنه فعرف أن الوالى سجنه، فذهب إلى الوالى وأخرج الفتى من محبسه، وفى الطريق داعبه قائلا: يا فتى ماذا كنت تغنى فى جوف الليل؟ فقال له الفتى كنت أقول «أضاعونى وأى فتى أضاعوا.. ليوم كريهة وسداد ثغر»، فسأله: وهل أضعناك؟ فقال: «لا والله بل حفظتنى حفظك الله ورعاك» ومنذ ذلك اليوم لزم الفتى أبا حنيفة وصار من حاضرى درسه ومجلسه حتى أصبح فقيها عالما من المشهود لهم بالفلاح والصلاح.
وبرغم سماحة الإمام وميله الدائم لدفع التناحر ونبذ الفرقة، كانت هناك فرقة من الفقهاء دائمة الكيد له والتربص به، وكحال أيامنا هذه كانت هناك فرقة من الفقهاء المناصرين لسلاطين الدولة الأموية بكل ظلمها وظلاميتها، وهم من يصح أن يطلق عليهم لفظ «المتحولون» الذين ما أن أيقنوا من هلاك الأمويين وزوال ملكهم حتى تحولوا إلى مناصرة سلاطين الدولة العباسية، ومن هؤلاء حفظ لنا التاريخ اسم القاضى ابن أبى ليلى والقاضى شبرمة، وهم من لزموا سلاطين بنى عباس وأصبحوا أعضاء فى مجلسهم الاستشارى بعد أن كانوا أولياء لبنى أمية ومعاونيهم، بل قد زينوا لبنى العباس البطش بمعارضيهم والفتك بهم وأعانوهم على ذلك بتخريجات فقهية مريضة، وقبول أحاديث موضوعة، مزينين للناس حب الزهد وترك السياسة ليتمتع الحاكم وحده بالطيبات تاركا الناس فى ظلمات الفقر والمرض، لكن الإمام الفارس لم يكن ليترك هؤلاء ليعبثوا بعقول الناس ويفسدوا الراعى والرعية، فكان يفند آراءهم ويبطل فتاواهم أمام الناس.
وحدث أن حكم القاضى «ابن أبى ليلى» بجلد امرأة مجنونة وهى واقفة لأنها سبت رجلا قائلة: «يا ابن الزانين» فأقام عليها حدين فى بيت الله حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم، وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ ابن أبى ليلى، فقد جلدها واقفة والنساء تضرب قعودا، وأقام الحد فى المسجد والحدود لا تقام فى المساجد، وضرب لأم الرجل حدا ولأبيه حدا وهذا لا يجوز، ولو أن رجلا قذف جماعة فهل عليه الحد بعدد هذه الجماعة؟ وعليه فإن الجمع بين الحدود لا يجوز، كما أن أبوى الرجل لم يحضرا فيدعيا، وخلاف هذا كله فالمرأة مجنونة والمجنونة ليس عليها حد، ولما بلغ الأمر «ابن أبى ليلى» ذهب إلى السلطان واشتكى أبا حنيفة، وقال له إن الإمام أهانه وإهانة القاضى إهانة للخليفة ذاته لأنه من عينه، فأصدر الخليفة أمرا بألا يعلق الإمام على أحكام القضاء، مانعا إياه من الفتوى، فامتثل الإمام لحكم الخليفة لكنه انتهز احتياج الخليفة إليه وطلبه منه الفتوى فامتنع عن إجابته إلا أن يأذن له فى أن يفتى للناس جميعا فأذن له.
كان هذا عهد الإمام بالخليفة العباسى، فمن ناحية لا يمكنه منه، ومن ناحية أخرى لا يريحه بالتمهيد له، وحدث أن تشاجر الخليفة مع امرأته لأنه كان يريد أن يتزوج عليها، فقال لها من ترتضيه ليحكم بيننا، فلم ترتض إلا الإمام، ولما حضر أبوحنيفة، قال له الخليفة: أوليس من حقى أن أتزوج عليها كما أباح لى الشرع؟ فقال له الإمام: إنما أحل الله هذا الأمر لأهل العدل، حيث قال «وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» فينبغى علينا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه، فسكت الخليفة وارتضى حكم الإمام، ولما ذهب إلى داره وجد زوجة الخليفة قد أرسلت إليه خادما وجارية حسناء وأموالا وحمارا وثيابا فاخرة نادرة، فشكرها وأرسل لها السلام ورد إليها هديتها قائلا: إنما ناضلت عن دينى وقمت بذلك المقام لوجه الله.
عاش أبو حنيفة هكذا دائما يراعى الله فى آرائه، ويستغنى بأموال تجارته عن عطايا الملوك وهداياهم، وهذا ما جعله إماما لاستقلال الرأى، ولأن أباحنيفة كان تاجرا، فقد كان على دراية كبيرة بدقائق التجارة ومنازعاتها، وقد انعكس ذلك على فقهه الذى تميز بالتيسير دائما على أهل التجارة والصناعة والمال من دون أن يخالف شريعة ولا أن يتعارض مع نص، ولهذا تراه مثلا يبيح أن يتزكى الرجل بترك ديونه المستحقة على الفقراء، كما أنه كان يؤمن بحرية الإنسان فى أمواله وأفعاله وتجارته، ولهذا فقد حرم الحجر على السفيه إذا ما تجاوز سن الخامسة والعشرين، كما أنه حرم الحجر على المدين وفاء لدينه لانتفاء شرط الرضا من المدين، كما أجاز ألا يقرأ الناس من خلف الإمام تخفيفا عليهم، وكان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة مفتيا بأن من حقها تولى القضاء مستشهدا بواقعة تولية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الحسبة لامرأة، وقال: إن من حق المرأة أن تزوج نفسها بنفسها دون ولى لأن السيدة عائشة راوية حديث «لا زواج إلا بولى» زوجت ابنة أخيها فى غيابه، وغلّب دائما اليقين على الشك بأن أجاز لمن توضأ وشك فى أنه فعل ما ينقض الوضوء، السير إلى الصلاة لأن الشك لا يرتقى إلى اليقين، كما حرم تكفير المسلمين وأثّمه حتى لو ارتكب المسلم المعاصى، ولم يكن بذلك يفتح باب الذنب، وإنما كان يفضل أن يظل باب المغفرة مرحّبا بالتوابين.
غير أن كل تلك الفتاوى الصادمة للمجتمع وقتها لم تكن هى التى جلبت عليه خصومة العلماء ولا السلاطين، فما كان لأحد أن يثبت أمام مناظرة أبى حنيفة، ولهذا اكتفى خصومه بالشتم والسب والكيد، موغلين صدر الخلفاء مدعين تشييع الإمام لما رأوه من تبجيله لأئمة آل البيت وهى التهمة التى لم ينفها الإمام ولم يتبرأ منها بل على العكس أحبها وأكدها قولا وفعلا، فقد ناصر ثورة الإمام زيد بن على زين العابدين ضد الخليفة الأموى هشام بن عبدالملك بالقول والجهد والعمل والمال، وكان يود لو حارب فى صفه وما منعه إلا أنه كان مستأمنا على ودائع الناس ولم يجد من يترك عنده أماناته، وزيادة على هذا ناصر أبوحنيفة ثورة الطالبى «محمد النفس الزكية» ضد العباسيين، وبكى مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور فى إخماد الثورة، ولما مات عبدالله بن الحسن شيخ أبى حنيفة ووالد محمد النفس الزكية فى السجن تحت آثار التعذيب بكاه أبو حنيفة فى حلقته معلنا أن واحدا من أفضل أهل الزمان قد استشهد فى سجنه.
واستمر أبوحنيفة الذى لقبه الفقهاء فيما بعد بـ«الإمام الأعظم» على حاله هذه، لا يمالئ حاكما ولا ينافق سلطانا، متحديا الخليفة المنصور بفتاواه التى زادت من غيظ خصومه، فأفتى ببطلان شهادة وزير الخليفة الأول، وقال إن الوزير يقول للخليفة أنا عبدك، فإن صحت مقولته فلا شهادة لعبد، وإن كذبت فلا شهادة لكاذب، وحدث أن طلب الخليفة منه فتوى بشأن أهل الموصل الذين كانوا قد تعهدوا للخليفة بعدم الخروج عليه، قائلين له إن خرجنا عليك فحلال عليك دمنا وأرواحنا وأموالنا، ولما نقض الموصليون عهدهم أفتى فقهاء السلطان له باستباحة دمهم، لكن أباحنيفة عارضه قائلا: دمهم حرام عليك وإباحتهم أرواحهم وأموالهم غير جائزة لأنهم أباحوا ما لا يملكون، وسأله: لو أن امرأة أباحت لك نفسها دون عقد أتحل لك؟ فقال له الخليفة: لا، فقال: هو نفس الأمر، فكف عن أهل الموصل ووجه جيوشك لحماية الثغور بدلا من أن تضرب بها صدور المسلمين.
ولما رأى الخليفة عناد أبى حنيفة وصلابته أراد أن يستميله بالمال والمناصب فعرض عليه القضاء فرفض، ولما وجده متمسكا برأيه حبسه وظل يضربه بالسياط ويعذبه وهو شيخ فى السبعين ليقبل المنصب والمال لكنه تمسك برأيه وظل على موقفه حتى مات، ويقال إن الخليفة دس له السم فى السجن، ويقال إنه أفرج عنه قبيل موته لتدهور حالته، فمات بعدها مباشرة من أثر التعذيب، وبرغم قوة أبى حنيفة وجلده وثباته أمام السلاطين والملوك والكيادين لكن الأثر قد حفظ لنا ما يؤكد رقة قلبه ورهافة حسه وطيبة منبته، ففى ليلة من ليالى السجن فى إحدى مرات حبسه، وبعد فترة تعذيب أخمدت روحه وأرهقت جسده، وبعد ما ناولته الزبانية صنوف العذاب، جلس أبوحنيفة فى محبسه صامدا، ثم سرعان ما انخرط فى البكاء منهارا، فقال له جاره فى السجن: ما الذى يبكيك فقال له الإمام: والله ما أوجعتنى السياط وإنما تذكرت أمى فآلمتنى دموعها على.
◄فقهاء التنوير: عمر بن الخطاب.. «العقل» أساس الملك .. سار على هدى الرسول القائل: استفتِ قلبك.. وكان دائم إعمال العقل سريع إبداء الرأى فأيده الله من فوق سبع سماوات
◄فقهاء التنوير: الإمام على بن أبى طالب.. مدينة العلم وراية العدل .. اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا وهو القائل: رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا
◄الإمام زيد بن على زين العابدين.. قاهر الفتن وموحد الأمم.. حارب متطرفى الشيعة وكان يذهب إلى من يدعون ألوهية الإمام على ويجادلهم أمام أنصارهم ليكشف كذبهم وهاجم العلماء الذين ينافقون الحاكم
◄الإمام جعفر الصادق.. معلم الأئمة..اشتهر عنه حب صحابة رسول الله أجمعين وكان يقول «من لا يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة»
◄الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان.. محرر المرأة وفقيه الحرية والاستقلال.. كان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء وتزويج نفسها بنفسها دون ولى
◄الإمام مالك.. فقيه المدينة وراعى مصلحة المسلمين..رغم علمه الغزير كان يكثر من الرد على أسئلة الناس قائلا: لا أدرى.. وكان يقول مستنكرا: إنى بشر أخطئ وأرجع وتكتبون كل ما أقوله!
◄الإمام المصرى الليث بن سعد.. راوى أحاديث الجمال والمحبة.. اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذين أمروا بهدم بعض الكنائس فعزله الخليفة عن الولاية وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة وإضافة كنائس جديدة
◄وائل السمرى يكتب : فقهاء التنوير.. الإمام أحمد بن حنبل.. ظلموه حيا وأساءوا له ميتا.. انفرد برواية حديث شرب معاوية بن أبى سفيان الخمر بعد تحريمها ولم يكن يخشى فى الحق لومة لائم
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة