من بين كل الأحداث التى نمر بها، لا يجد الواحد أنسب من التحدث عن «الزبالة» باعتبارها الظاهرة الأكبر حجما، والأوسع انتشارا، والأكثر حضورا فى حياتنا، وأعتذر لكل من توقع أنى سأتحدث عن الحكومة الجديدة ورئيسها المفاجأة، أو الفريق الإخوانى أو المتأخون للرئيس الإخوانى الصريح، أو التوقعات المحتملة بشأن التشكيل الوزارى، أو مدى صحة أو خطأ خبر اعتزام الرئيس، إسناد منصب نائب رئيس الوزراء لنائب رئيس مكتب الإرشاد خيرت الشاطر، أو حصة التيار الدينى بجناحيه «الإخوانى والسلفى» فى الحكومة الجديدة، أو مدى وفاء الرئيس بتعهداته ووعوده، فكل هذا وإن كان مهما وملحا، لكن من وجهة نظرى فإن تناول ظاهرة «انتشار الزبالة» أجدى وأنفع وأبلغ.
دعنى أصارحك منذ البداية بأنى لم أكن منتبها لفجاعة مشكلة انتشار الزبالة قبل الثورة، ولذلك ليس لقلتها أو ندرتها، لكن لأنها كانت مشكلة ضمن المشاكل التى كنت أعرف أنها لن تجد حلا إلا إذا سقط النظام، وأعيد بناؤه على أسس سليمة، لذلك كنت أقابل تأذى أبى رحمه الله من هذه المشكلة، وتأففه منها بعدم اكتراث، فقد كان كثيرا ما يعيب زماننا بانتشار «الزبالة»، متحسرا على أيامه هو، «كان رحمه الله من مواليد سنه 1927»، ولم أكن وقتها أيضا منتبها إلى أن عدم اكتراثى بالـ«زبالة»، يرجع إلى اعتياد أبناء جيلنا على رؤيتها، ومن ثم.. فقد أصبحت لا تثير دهشتنا، وهى الظاهرة التى رصدها العالم الدكتور «شاكر عبد الحميد» وزير الثقافة السابق بأكاديمية وحرفية، ودقة يحسد عليها فى كتابه المهم الصادر عن دار ميرت للنشر «الفن والغرابة» الذى أدعوك إلى قراءته والتمتع به، وأعدك بأنك لن تندم.
اختلف الحال بعد قيام الثورة، وتطلعنا إلى حياة أكثر «نظافة» على المستوى المعيشى اليومى، وعلى المستوى السياسى والاجتماعى والثقافى، ولم يكن من المستغرب أن تهتم الطليعة الأولى من أبناء الميدان منذ مساء يوم 25 يناير بنظافة الميدان، وتكوين دوريات لجمع القمامة، وتوفير أوعية لحفظها بعيدا عن أعيننا، ولم يكن بمستغرب أيضا أن ينشط أبناء الميدان من أجل تزيينه، وتجميله بلوحات الكاريكاتير ورسوم الجرافيتى التى كانت منتشرة على حوائط الميدان وأرضيته، ذلك لأن النظافة قرينة الجمال، ولا وجود لأحدهما دون وجود الآخر، ساعد فى هذا التوجه أن ميدان التحرير ذاته من حيث التخطيط والعمارة والتشكيل لوحة فنية متكاملة، خططه ونظمه وأنشأه أناس، كانوا يعرفون قيمة الجمال، وأهمية التناسق، وجدوى التخطيط السليم، فكانت المهمة يسيرة، وكل ما فعلناه فقط هو أننا أعدناه إلى سيرته الأولى.
لم يكن بمستغرب أيضا أن تتفشى حالة الميدان فى مصر كلها، فينهض كل شباب مصر من أجل تنظيف شوارعنا، وذلك لأننا وقتها صدرنا «شباب 25 يناير» باعتبارهم القدوة والمثال، ومن لا يصدقنى فليتأمل تسرب «الزبالة» إلى حياتنا، وبداية ظهورها الفج واحتلالها شوارعنا وفضائياتنا وجرائدنا بالتزامن مع اختصار شباب الثورة فى عدد من الوجوه «المحروقة»، تنفيذا لمخطط تشويه الثورة الذى تبناه مجلسنا العسكرى الهمام، استعدادا منه لإجراء استفتاء مارس الشهير.
الآن بعد عام ونصف على الثورة، وبعد إجراء أربعة انتخابات عامة، وبعد أن تعلمنا الكثير من أخطائنا التى وقعنا فيها بفعل انتشار «الزبالة»، فأدت إلى زيادة انتشار «الزبالة»، علينا أن نواجه أنفسنا بأخطائنا، وأن نعترف أن «الزبالة» صارت مكونا ثقافيا صلبا، لا ينفع لإزالته إلا عزيمة جبارة، وعمل دؤوب، وتخطيط صارم، وخيال جامح، تسألنى: وما رأيك فى الأحداث والمستجدات المتعاقبة على حياتنا السياسية؟ وأقول: يجب علينا أن نعمل جاهدين على إزالة «الزبالة» كمكون أساسى من ثقافتنا.