سيناء لم ولن تكون وطناً قومياً للفلسطينيين، إنها مصرية الأرض والرمال والشط والبحر والهواء والسماء، ولن تكون غير ذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. مصرية الشعب والبدو والحضر والرجال والنساء والأطفال والشباب والعجائز، لم تكن غير ذلك ولن تكون.. مصرية وتم تحريرها بدماء طاهرة وأرواح غالية، وكل شبر فيها ينطق ببطولات رائعة وتضحيات مجيدة، ولم تنم مصر ولا المصريون لحظة واحدة حين احتلتها إسرائيل، وظل الجميع يصرخون بالدموع "فاكرينك يا سينا والرملة الحزينة"، وشدوا الحزام على بطونهم وحرموا أنفسهم من لقمة العيش، إلى أن عادت كما يعود الطفل الضائع لأحضان أمه وأبيه.
سيناء مصرية ولن تكون عربوناً يقدمه صفوت حجازى والإخوان لقيام الخلافة الإسلامية وعاصمتها القدس ومصر إحدى ولاياتها، ويبدو أن الإخوة فى حماس صدقوا "وعد حجازى" فتعددت زياراتهم لمصر عمال على بطال، وزادت جرأتهم فى اقتحام الحدود والعبور إلى الجانب الآخر، ولم نطمئن لتصريحات الطمأنة التى يطلقها قيادات حماس بأن سيناء ستظل مصرية وحماس جزء من حمايتها، ولا الأسطوانة المشروخة التى يرددها إسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة قبل أن يلتقى بالرئيس مرسى بأن "مصر هى قائدة الأمة العربية ولن تتحرر فلسطين إلا من خلال مصر".
تانى يا هنية.. رجعنا لأسطوانة "لن تتحرر فلسطين إلا من خلال مصر" أين - إذن - السعودية والكويت والعراق والسودان وقطر - بالذات قطر -، أين اتفاقية الدفاع العربى المشترك وجامعة الدول العربية، أين دول الطوق وسوريا تئن تحت مجازر الأسد، والأردن فى حالة مخاض انتظاراً لربيع عربى متأخر؟.. بل أين الفلسطينيون أنفسهم وهم منقسمون بين فتح وحماس، والمصالحة بين الأشقاء صارت أصعب من الصلح مع الأعداء، فهل يضحك هنية على نفسه أم علينا، أم يدغدغ مشاعر الجماهير بعبارات حنجورية وفرقعات نضالية، قادتنا من نكسة إلى نكسة ومن هزيمة إلى هزيمة؟.
" مصر تانى".. وكأننا سنلدغ من نفس الجحر، ونشرب من نفس الكأس، ونقع فى نفس الورطة التى أوقعوا فيها عبد الناصر، الذى لم يضع شيئاً نصب عينيه منذ قيام ثورة يوليو غير البناء والتنمية ورفع مستوى معيشة المصريين وتحقيق خطط نمو خمسية غير مسبوقة، ولم يكن فى ذهنه أبداً أن يدخل حرباً مع إسرائيل، كما قال فى خطبته الشهيرة فى عيد العمال مايو ١٩٦٥.. ولكن المناضلون العرب دفعوه رغم أنفه الى دخول حرب لم يكن مستعدا لها، تاره بالترغيب وخلع الألقاب الكرتونية عليه كزعيم العرب، وتارة بالابتزاز والشتائم، حتى دخل الرجل الفخ الذى نصبوه له ولمصر وكانت الهزيمة المرة سنة ١٩٦٧؟.
نفس الكلام الذى يقوله هنية الآن بشعارات إسلامية "فلسطين لن تتحرر إلا من خلال مصر"، قالوه لعبد الناصرفى الستينات بهتافات قومية، وبعد الهزيمة هاجموه وسبوه، وسخروا من مصر وفقر شعبها، ولم يدفع أحد ثمنا سوى المصريين من قوت يومهم وعرقهم ودماء وأرواح أبنائهم، و لم يضع أحداً فص ملح فى عينيه ويقول أن مصر حاربت من أجل فلسطين أو من أجل قضية العرب المصيرية، وعانى هذا الشعب الأمرين حتى استطاع أن يقف على قدميه من جديد، بينما ضخ البترول فى عروقهم ذهباً وثروات باهظة.
مصر لم تحرر سيناء من الإسرائيليين لتسلمها للفلسطينيين، وعلى أرض الواقع تحدث من قادة حماس تصرفات وأقوال وأفعال تثير الريب والشكوك، مثل الاقتحام المتكرر لمعبر رفح من قبل الفلسطينيين حتى فى أيام الصيانة الدورية رغم أنه مفتوح طوال الأسبوع، وما يتردد حول شراء الفلسطينيين للإراضى فى سيناء، والأنفاق المفتوحة على مصراعيها للتهريب غير المشروع بينما المعبر مفتوح للمساعدات المشروعة، علاوة على تهريب الإسلحة الثقيلة والمدافع والصواريخ وإنتشار العصابات والميليشيات المسلحة، وتدمير خط الغاز حتى بعد وقف تصديره لإسرائيل.
هناك مواجع وهواجس لدى البعض بأن أطماع حماس فى سيناء لا تقل عن إسرائيل، وإسرائيل نفسها تتمنى أن يأتى يوم تقوم فيه بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، لتنتهى من صداع السلام وتسمح بقيام الدولة الفلسطينية على حساب مصر، ودون أن تضحى بشبر واحد من الأراضى التى تحتلها، وإلى أن يتحقق ذلك فمن مصلحتها أن تظل سيناء ملتهبة ومتوترة وينعدم فيها الأمن، لتبقى ذرائع التدخل قائمة وتستخدمها وقتما تشاء، بينما مصر منشغلة فى معارك الفرقاء فى الداخل وقواتها المسلحة مستنزفة فى تأمين الجبهة الداخلية وحراسة المرافق والمنشآت الحيوية.
لم تنل خطبة إسماعيل هنية فوق منبر الأزهر فى فبراير الماضى إهتماماً كافياً، خصوصاً أنه جاء يعلن من قلب مصر أن المقاومة مستمرة طالما إستمر الاحتلال، فهتف له الإخوان "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد ع الحدود" والسؤال هنا: على أى حدود ؟ ومن أين تستمر المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل ؟، من الأردن أم سوريا أم لبنان أم سيناء ؟ وهل يمكن أن تدفع حماس مصر إلى دخول حرب مع إسرائيل بالتوريط ؟ وهل يتكرر نفس سيناريو ١٩٦٧ بخداع مصر إلباسها تاج "الخلافة" بدلا من "العروبة"، فى مقابل أن تقود الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وتدفع من جديد ثمناً باهظاً لن تتحمله هذه المرة؟
غزة ليست فقيرة، بل أن فقرائها أسعد حالا من نصف المصريين، وليست محاصرة لأن معبر رفح مفتوح طوال الإسبوع لدخول المساعدات وإنتقال لفلسطينيين من وإلى مصر، وليست وحدها التى تنقطع عنها الكهرباء، بل إن كثير من المناطق المصرية أكثر منها إظلاماً وانقطاعاً للكهرباء، والمصريون يعانون أيضا من أزمات خانقة فى الغاز والبوتجاز والسولار والبنزين، بما يعنى أن الرئيس مرسى ليس مضطراً أن يحمل على كتفيه همومها أكثر من هموم شعبه، وليس من حقه أن يفرج أزماتها قبل أن يحل مشاكل مواطنيه، والمثل يقول "اللى محتاجة البيت يحرم على الجامع".