عبدالحميد أبوعقرب كان أسطورة خيالية فى عقد التسعينيات بأكمله.. ليس عند الحكومة فحسب ولكن عند الإخوة والناس، بل والمعتقلين أيضاً. فكلما سمع المعتقلون عن صدام مسلح بين الدولة والحكومة أو عرفوا بإحدى العمليات التى يقوم بها الجناح العسكرى للجماعة الإسلامية فى التسعينيات قال بعضهم لبعض: «إنه أبوعقرب»، وكلما حدثت إهانة لمعتقل أو منع من بعض حقوقه أو تم إهدار لكرامته الدينية أو الإنسانية هتف لسانه وقلبه: «أين أنت يا أبوعقرب» لترد لنا بعض حقوقنا.
أما الحكومة فكلما حدث صدام سارعت بالشك فى صاحبنا والبحث عنه فى كل مكان وتنشيط كل المصادر السرية للقبض عليه دون جدوى، أما الصحافة فلا حديث لها إلا عن قائد الجناح العسكرى النشط أبوعقرب، وكانت بعض الصحف القومية تنشر بين الحين والآخر إعلاناً عن تبرؤ بعض أسرته الشهيرة فى الصعيد من الإرهابى الخطير عبدالحميد أبوعقرب، وتعلن فصله من العائلة فصلاً نهائيا، حيث إن هذه الأسرة مليئة بضباط المباحث خاصة والشرطة عامة وأعضاء مجلس الشعب الذين أضيروا جميعا من أسطورته، فهو خلف كل مشكلة ووراء كل مجموعة مسلحة وهو دائم التخطيط المتقن والتنفيذ الدقيق فى كل مكان من أدنى الصعيد إلى أقصاه. وهو عند أهل مدينته وأسرته كالسراب الذى لا يعرف أحد طريقه ولا يستطيع أحد اقتفاء آثاره.
وهكذا نسجت الأسطورة شباكها بإحكام حول «أبوعقرب» حتى حملت الرجل ما لا يحتمل وألقت فوق عاتقه من الأوزار ما لا يطيق وحمله البعض كل مصيبة تحدث وألقى عليه آخرون هم الدفاع عن كل مظلوم أو مقهور.
قصة عبدالحميد أبوعقرب أغرب من الخيال، بل إن هذه القصة لو عرضت فى السينما لما صدقها الجمهور وهتفوا جميعا: «سينما أونطة.. أعطونا فلوسنا»، فهذا الرجل كان حديث الالتزام بالإسلام والجماعة الإسلامية ولم يعتقل فى حياته إلا مرة واحدة ولقى فيها معاملة سيئة فى أحد أقسام العريش 1992م ومن بعدها قرر ألا يقبض عليه أبدا مهما كانت الظروف والتبعات، ولما بدأ التوتر يشتد تدريجيا بين الجماعة الإسلامية والأمن فى أسيوط قرر الهروب إنفاذا لعهده السابق مع نفسه، وبعدها قتل اللواء عبدالحميد الشيمى مساعد مدير أمن أسيوط بالقرب من قريته.. ولما كان هاربا حامت الشبهات حوله وكثرت الأقاويل عليه وتحدثت الصحف عنه باعتباره قائدا من قواد الجناح العسكرى، وما أكثر هؤلاء القادة الذين تحدثت عنهم الصحف فى التسعينيات وكل يوم تحدثك الصحف عن قائد جديد وكأن الجناح العسكرى هذا له ألف قائد.. فماذا عن عدد جنوده.. أم أنه لا يحتوى إلا على القادة فقط؟
المهم تحولت الشبهات والأقاويل إلى حقائق بقدرة قادر وأصبحت تنسب إلى الرجل معظم الأحداث التى لا يتوصل أحد إلى فاعليها حتى اكتملت الدراما الهندية ووصلت إلى ذروتها فحصل على حكمين نهائيين بإعدام من محاكم أمن دولة طوارئ لا استئناف لها ولا نقض فيها ولا إعادة محاكمة فيها، نظرا لأنها أحكام غيابية، كل ذلك والرجل الغامض عبدالحميد أبوعقرب فى حقيقته هو مسلم عادى جدا ينتمى فقط للجماعة الإسلامية، وكان يصلى بالناس فى قريته البسيطة وهو فى نفس الوقت ضعيف النظر جدا، وأجرى فى أثناء هروبه وبعد دخوله السجن حوالى ست عمليات لإزالة المياه البيضاء تارة ولإصلاح تمزقات الشبكية تارة أخرى، وهو لا علاقة له من قريب أو بعيد بالجناح العسكرى، ولا أى جناح من أى نوع حتى لو كان جناح فرخة.. أو جناح أيسر فى الملعب مثل جلبرتو.. ولا علاقة له بالسلاح.
والأغرب من ذلك كله أن هذا الرجل لو قبض عليه فى التسعينيات وهى أيام المواجهات المشتعلة بين الجماعة الإسلامية ونظام مبارك لكان اليوم من أهل القبور والآخرة، ولكنه بذكائه الفطرى أدرك أن اللحظة المناسبة التى يسوى فيها موقفه ويسلم فيها نفسه لن تأتى إلا بعد استقرار المبادرة على أرض الواقع.. وهدوء الأنفس المشحونة بالثأر إلى طبيعتها وعودة الحكمة إلى الطرفين بعد طول غياب، فحينها وحينها فقط يمكن أن يسمع لقوله ويصدق كلامه.. وهكذا صدق حدس الرجل الطيب بفطرته.. والصالح دون تكلف.. والبرىء المظلوم.. فلم يسلم نفسه إلا بعد أن أتت المبادرة ثمارها ورست على شاطئ الأمان.. فلم أجد فى حياتى أنقى ولا أصفى ولا أطيب سريرة من عبدالحميد أبوعقرب.
ومنذ أيام ومن سجن العقرب خرج أبوعقرب الذى كان يثق فى براءته وأنه لم يقترف ذنبا ولم يرتكب إثما.. خرج وهو يسير بمساعدة آخر لأن بصره كان دوما عليلا.. حتى حينما كان الناس يلقبونه بقائد الجناح العسكرى وهو لم يطلق طلقة فى حياته على حيوان.. فضلا ً عن أن يفعل ذلك مع أى إنسان.. ولكن كل من اعتقل وعذب وهو يحقق معه وسئل عن شىء ألقاه على كاهل أبوعقرب.. سواء كان ذلك الأمر سلاحا ً أو عملية عسكرية أو غيرها.. إذ كانوا يعتقدون جميعا ً أنه مات.. وهكذا بدأت الأسطورة تكبر شيئا فشيئا حتى أحاطت بالجميع فصدقوها بلا استثناء.. إنه أبوعقرب أسطورة البراءة والطيبة والأخلاق الفاضلة والأصل الطيب والود بلا تكلف.. إنه أبوعقرب الذى أحببته من كل قلبى.. لأنى رأيت الصدق والتجرد فيه دائما.. فتهنئة له بالفرج والعافية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة