لم أكن أتوقع بعد عام ونصف العام من الثورة المصرية، وأختها التونسية التى اندلعت بسبب إحراق المواطن محمد بوعزيزى نفسه، أن يتكرر نفس السيناريو ويبادر عامل مصرى بشركة سجائر بإشعال النار فى جسده، اعتراضا على خصم مبلغ أربعين جنيها من راتبه، إذ تدل هذه الواقعة التى نشرت تفاصيلها فى «اليوم السابع» أمس على أن الثورة التى نادت بـ«عيش حرية عدالة اجتماعية» لم يتحقق منها شىء حتى الآن، وأننا مازلنا فى المربع رقم صفر.
تفاصيل الخبر تقول إن المواطن مدحت محمد حسن، 52 سنة، العامل بشركة سجائر مصرية، أشعل النار فى جسده بسبب خصم أموال من راتبه، وحينما استعلمت عن أساس المشكلة علمت أن هذا العامل البسيط يعمل سائقا لحساب شركة تابعة لشركة السجائر، وأنه كان على خلاف دائم مع مديره، وأنه تم تهديده بالفصل، وهو أب لخمسة أبناء، منهم بنات «على وش جواز»، فحينما اسودّت الدنيا فى عينه وبدت تهديدات المدير فى حيز «الأفعال» لم يجد إلا النار لتلتهم ما تبقى له من حياة لم يعد فى حاجة إليها، وها هو الآن يقبع فى المستشفى بين الحياة والموت والعجز، بنسبة حروق تجاوزت الـ 60% من جسده، ما يعنى أنه إن تعافى- وهذا احتمال ضعيف-سيبقى عاجزاً عن العمل والحياة.
لست مجنوناً لأحمّل الدكتور محمد مرسى مسؤولية إحراق مواطن نفسه فى الأيام الأولى من رئاسة الرئيس، لكن الجنون بعينه هو ألا ننتبه إلى أن السياسات الاقتصادية القائمة نالها الفساد والإفساد، وأصبحت أداة لتكريس الظلم وتقنينه وزيادته، والجنون الأكبر هو أن نعتبر أن مرور عام ونصف العام على اندلاع الثورة، وعدم تغيير القوانين المجحفة التى تنتصر لأصحاب رؤوس الأموال من قبيل «العادى»، فها هى أجراس الخطر تدق، وعلينا أن نسمعها الآن «بإرادتنا» قبل أن نسمعها رغماً عنا.
ولأن شيئا لم يتغير سأستعير اليوم بعضا مما كتبته فى يوم 18 يناير 2011، أى قبل الثورة بأيام، فى مقال بعنوان «عود كبريت لكل مواطن»، والذى سطرته بعد أن انتشرت هوجة إشعال النار فى أجساد الفقراء البسطاء اليائسين، فوقتها قلت: ليس ببعيد أن تجد حكوماتنا تحرّض الناس على أن يحرقوا أنفسهم، موفرة لكل مواطن «عود كبريت» ليتخلص منها وتتخلص منه فى ضربة واحدة، عود كبريت لكل من سُلب حقه، ولكل من باع كليته أو كبده، ولكل من باع طفله، ولكل من باع جسده، ولكل من وقف فى طابور التعيين ولم يصبه الدور، ولكل من وقف فى طابور العيش فلقى مصرعه، ولكل من وقف فى طابور أنابيب البوتاجاز فمات قبل أن يحملها، ولكل من اجتهد فجاء ابن لكبير فلحس اجتهاده، ولكل من ترملت فلم تجد ما يعينها سوى الهوان والمذلة، ولكل من انتظرت ابن الحلال فلم يأتها إلا الوهن فى عيونها، والشيب فى شعرها، والانحناء فى ظهرها، ولكل من انتظر فتاة الأحلام فلم يجدها حتى فى الأحلام، عود كبريت لكل طفل من أطفال الشوارع لم يجد مأكلا إلا ما خلفته القطط والكلاب من القمامة، ولكل يتيم قُهِرَ، ولكل سائل نُهِرَ، ولكل فتاة أُجبرت على التعهر لتكسب قوت يومها، وتجد ما يستر أبناءها أو أخواتها.. عود كبريت يخلصنا جميعاً، فعلى طريقة الصوفية قد يكون الفناء سبيلاً للبقاء، وعلى طريقة الأساطير قد يكون الاحتراق أول سبيل البعث والولادة.