لأنه كفر بالـ«معافرة»، وقرر أن يهرب وينزوى فى أحد أركان الحياة، لأن الصدمات التى تلقاها من ممارسات رموز السياسة والدين نجحت فى كسر عزيمته التى لم يكسرها المرض، لأنه لم يعد موجودا داخل نفس إطار الصورة الملهمة، ولأنه نموذج لكثيرين اخترق الإحباط حواحز دفاعهم وأسوارهم النفسية.. كان لابد أن أذكره وأذكر كل من سار على دربه أو يفكر فى أن يترك صدره عاريا مستسلما بما هو آت.
آسف.. القلب الذى تحاول أن تستمع لنبضه الآن ربما يكون مرهقا، أو مصابا بمرض ما.. ضحك كثيرا وهو يردد تلك الكلمات كنوع من الإجابة على سؤالى المعتاد أخبارك إيه يا سيدى؟ أدركت من الإجابة أنها قصة حب فاشلة كالعادة، كنا نعلم تماما أنه لا يجيد التعامل مع النساء أو ربما النساء هى التى لم تكن تجيد التعامل معه، لأنه كان أطيب وأهدى من أن يزعج أحدا أو يكرهه فرد ما.
صديقى الطيب كان يخرج من قصص حبه دائما موجوع القلب، كان مثاليا بالشكل الذى يجعله الأفضل والأقرب للجميع بلا استثناء، لا ينافق ولا يحب المنافقين، يجتهد ويحب المجتهدين، لذلك كان يرى أن حياته صعبة فى ظل حكم مبارك، لأنه على النقيض تماما من أفكاره ولأن الناس تتعامل مع صفاته تلك «معاملة العبيط».
لم تكن قصة حب فاشلة لأنه أقلع عن تلك العادة، بعدما اكتشف أن المشاعر التى تملأ الأسواق الآن فاسدة، كان قلبه موجوعا بجد، قلب عليل من هذه القلوب التى اكتشف صاحبها بعد إجراء فحوصات طبية بالصدفة، أنها تنبض بغير انتظام وأنه يحتاج إلى عملية أو ما يزيد، كما يحتاج إلى معاملة خاصة، قال لى إنه لن يستطيع أن يوفرها لقلبه فى تلك الظروف.
صديقى الذى يحمل من سنين العمر مقدار ما أحمله، أصبح يحمل قلبا مريضا وغير قادر على العناية به طبقا لتعليمات الطبيب، الجزء الخاص بغرفة العمليات لا يخيفه إطلاقا، أما الجز الخاص بالهدوء وعدم الانفعال والغضب فهو يخشاه تماما، سألنى كيف أمنع قلبى من الانقباض وهو يرى أطفالا تبحث فى مقالب الزبالة عن إفطارها، وكيف سيمنع قلبه من الغضب حينما يرى أولئك المرضى الغلابة وهم يقفون بجروحهم التى تنزف، أو بوجوههم التى تصرخ من السرطان الذى ينهش فى أجسادهم على باب المستشفى الصغير الذى يعمل به، طالبين منه الرحمة التى لا يملك منها إلا بعضا بسيطا، وكيف سيمنع قلبه من الانفعال حينما يرى صاحب المستشفى وهو يرفض استقبال «ميت حى» لأنه لن يدفع المعلوم، وكيف سيحافظ على هدوء قلبه العليل، وهو يشاهد عبثا وأكاذيب وألاعيب ونفاقا فى مجتمع لن تنقذه سوى كلمة الحق.. سألنى ولم أستطع أن أجيب!
كلكم تقولون عليه الآن إنه مثالى زيادة عن اللزوم، ولكنه فقط مازال يحتفظ بذلك القدر البسيط من الإنسانية التى فقدناها، ولذلك نحن نعيش بقلوبنا الصحيحة التى أغلقت شرايينها عليها، ولم تعد تهتم بأن يكون العالم من حولها أفضل، فقط تهتم بأن تؤدى وظيفتها بضخ الدم فى العروق حتى لو كان هذا الدم مصابا بفيروس «سى»، وصديقى يعيش بقلبه الموجوع، لا يريد أن يقاوم لأنه يرى أن «اللمبة» التى كانت تنير له إلى مستقبل أفضل للبلد فى نهاية الطريق.. قد انطفأت أو أصابها بعض الارتعاش غير المطمئن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة