وائل السمرى يكتب: الإمام المراغى.. ضمير مصر ومؤسس الأزهر الحديث..دعا إلى عدم «التمذهب» وهاجم فى ثلاثينيات القرن الماضى مروجى ظاهرة الإعجاز العلمى فى القرآن

السبت، 11 أغسطس 2012 08:33 ص
وائل السمرى يكتب: الإمام المراغى.. ضمير مصر ومؤسس الأزهر الحديث..دعا إلى عدم «التمذهب» وهاجم فى ثلاثينيات القرن الماضى مروجى ظاهرة الإعجاز العلمى فى القرآن الإمام المراغى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء


دعا لفتح باب الاجتهاد ولم يمانع من أن يشتغل عالم الدين بالسياسة بشرط عدم الانتماء إلى حزب أو طائفة بشرط أن يكون عمله بها من أجل الإرشاد إلى الصواب ولرد المخطئ عن خطئه

صرخ فى وجه الملك فاروق حينما أراد منه أن يحرم على طليقته الزواج من غيره قائلا: إن المراغى لا يحرم ما أحله الله

إن كان معروفا أن مؤسس الجامع الأزهر هو القائد جوهر الصقلى فى القرن الرابع الهجرى، فإنه من الواجب أن يعرف العالم كله إن الإمام محمد حسن المراغى هو المؤسس الثانى لهذا الجامع الجامعة لما سنه من قوانين أحدثت طفرة فى حياة الأزهر، ولما بذل من مجهودات خارقة ليتبوأ الأزهر مكانته التى نفتخر بها الآن، وإن كان بعض الناس يلومون الإمام الكبير من باب المحبة على قلة كتبه، فحسبه أنه بسياسته الإصلاحية الواعية ومواقفه الإسلامية الوطنية الكبيرة، ومنهجه العقلى والروحى الملتزم بتعاليم كتاب الله وسنة رسوله الكريم قد أنتج عشرات، بل إن شئت قل مئات من الموسوعات والكتب والبحوث منتشرة فى عقول أبنائه فى مصر والعالم العربى والإسلامى، دون أن ينقص ذلك من أهمية كتبه وأبحاثه القليلة عددا والكبيرة قيمة وتأثيرا.

هو محمد مصطفى محمد عبدالمنعم المراغى، ابن محافظة سوهاج المولود فى ربيع العام 1881م، والذى صار بعد ذلك أحد أهم أعلام مصر والعالم الإسلامى وأحد أهم من شكلوا قوانينها ومسارها التشريعى والفقهى والوطنى، شاء له القدر أن يولد لأب يحب العلم والثقافة والتبحر فى شؤون الدين، فورث ابنه هذا الحلم وعمل على تحقيقه، وحينما ظهرت نجابته فأرسله أبوه إلى الأزهر ليكمل تعليمه فيه، وفى الأزهر كان لقاؤه بالإمام محمد عبده إمام المصلحين وصاحب المدرسة الفقيه الشهيرة التى تعرف باسم «المدرسة العبدية» فرأى فى الأستاذ تمسكا بالدين وحرصا على إحياء علومه وتجديد نهضته، وعرف منه أن الله لم يضع الإسلام حجرا فى طريق النهضة بل أساسا لها، وأيقن من أن الله فى كل شىء صالح وفى كل عمل طيب، فمضى يبحث عن الله فى كل شىء خلقه، وكأنه فى رحلة عشق إلهى متجدد.
قبل أن يموت الإمام محمد عبده بسنة واحدة تقدم الإمام المراغى وهو يبلغ من العمر آنذاك 23 سنة إلى اختبار نيل شهادة العالمية من الأزهر الشريف، وكان وقتها مصابا بالحمى فجاوب قدر ما استطاع وكان الإمام محمد عبده يرى أنه مريض، وبرغم ذلك استطاع أن يجتاز الاختيار بمهارة وتفوق، وكان ترتيبه الأول على أقرانه، وبعد حصوله على «العالمية» اشتغل بالتدريس فى الأزهر الشريف بضعة أشهر حظى فيها بشهرة كبيرة بين أقرانه وتوافد فيها عليه الكثير من الطلبة المعجبين بآرائه والمتبعين لمنهجه، وبعدها اختاره الإمام محمد عبده ليعمل بالقضاء الشرعى فى السودان، ثم عاد إلى مصر بعد أن اختلف مع المسؤولين السودانيين الذين تجاوزوه فى الترقية فقدم لهم استقالته، ليشغل فى مصر منصب مفتش الدروس الدينية بديوان عموم وزارة الأوقاف بجانب عمله بالتدريس فى الأزهر، وما هى إلا أشهر حتى عاد للسودان مرة أخرى ليشغل منصب قاضى القضاة فى السودان أجمع، لكن السودان كان كما مصر تحت الاحتلال الإنجليزى فقد رفض قبول الوظيفة تحت الاحتلال الإنجليزى، وقال لهم إنه لن يذهب إلى السودان إلا إذا وقع خطاب التعيين الباشا خديوى مصر لأنه الحاكم الشرعى للسودان، ولأنه حاكم مسلم وهو ما أثار استياء الإنجليز الذين كانوا ينون قطع كل صلات مصر بالسودان بدليل أن القاضى الذى أتى بعد المراغى جاء بتوقيع الحاكم الإنجليزى.

أسهمت تجربة تولى الإمام المراغى مهمة القضاء فى السودان فى تعميق وعيه بالفقه الإسلامى، وبلورة منهجه الفقهى المتجدد، فها هى قضايا الناس الواقعية بتفاصيلها وجزئياتها وتعقدها تقف وجها لوجه أمام النصوص الفقهية والأحكام المتوارثة، والتى قد اختلفت وتباينت ولم تعد صالحة للتطبيق بعد أن اختلف العصر، وكان لهذه التجربة أكبر الأثر فى منهجه الفقهى بعد ذلك ومحاولاته إكساب الفقه الإسلامى مرونة تمكنه فى الفصل فى نزاعات الناس المعقدة بعدالة الإسلام الراسخة، وهو ما ظهر واضحا فى كتابه «الاجتهاد» الذى دعا فيه إلى الأخذ بما جاء فى جميع المذاهب الإسلامية وجواز الحكم بأكثر من مذهب وعدم الاقتصار على مذهب واحد.

وكان للإمام مواقف كثيرة فى السودان أظهرت سماحته الإسلامية وغيرته على الدين وكرامة العالم ومكانة الأزهر، فلما أرادت حكومة السودان تعديل لائحة المحاكم الشرعية بالسودان، تمسك الشيخ الإمام بأن من سلطته أن يختار للقضاة الآراء الفقهية التى يحكمون بها، ولما رفض المسؤولون فى السودان هذا الأمر، أصر الإمام على رأيه، حتى انتصر على مناوئيه، ويتداول محبو الإمام واقعة حدثت أثناء إقامته بالسودان تفيد أنه كان دائم الاعتزاز بمكانته وشخصيته، ولكنه لم يكن اعتزازا شخصيا بقدر ما كان اعتزازا بالقيمة التى يمثلها، فقد حدث أن الحكومة البريطانية اعتزمت أثناء احتلالها للهند أن تحتفل بتنصيب الملك جورج الخامس إمبراطورا على الهند، فأصدرت الأوامر إلى الأعيان وكبار الموظفين فى السودان أن يسافروا إلى الميناء لاستقبال باخرة الملك، وهى فى طريقها إلى الهند حيث تتوقف لبعض الوقت وكان فى مقدمة المدعوين قاضى قضاة السودان الإمام المراغى، وكان البروتوكول يقضى بألا يصعد إلى الباخرة أحد غير الحاكم الإنجليزى، وأما من عداه فيمكثون بمحاذاة الباخرة ويكفى أن يشرفهم الملك بإطلال عليهم، وعلم الشيخ ذلك الترتيب فأخبر الحاكم الإنجليزى بأنه لن يحضر لاستقبال الملك إلا إذا صعد مثله إلى الباخرة لملاقاته، وإلا فلن يحضر، ولما وجد الحاكم أنه من غير الممكن أن يتخلف قاضى القضاء عن استقبال الملك وافق على رأيه، ولما صعد الإمام إلى الباخرة قابل الملك، وملؤه عزة وشموخ، وحياه بتحية الإسلام ولم ينحن له مثلما وجد الآخرين ينحنون، وهو ما أثار استياء الإنجليز الذين طالبوه بالانحناء للملك، فقال لهم مقولتهم الشهيرة: فى ديننا لا ننحنى لغير الله.

مضى الإمام فى رحلته للسودان محاولا أن يضخ الدماء فى شريان القضاء السودانى وهو عصب الحياة الأول الذى إن صلح صلح حال البلد، فأشرف على القسم الشرعى من كلية «غاردون» وزوده بأساتذة من العلماء المصريين الممتازين من الأزهر ودار العلوم، وهو ما يذكره السودانيون للإمام بكل تقدير، ولما اشتدت الثورة بمصر، التف المصريون بالسودان حول الشيخ الإمام المراغى فقاد جموعهم فى مظاهرة كبيرة، وأخذ يجمع التوقيعات لتأييد زعامة سعد زغلول وأصحابه والإقرار بأنهم وكلاء الأمة، وهنا ثار حُكَّام الإنجليز بالسودان، فاقترح بعضهم سجنه، واقترح بعضهم اعتقاله ونفيه، وهو ما تم تجنبه خوفا من إحداث ثورة أخرى، فأنهى عمل الإمام بالسودان ومنحته حكومة السودان إجازة مفتوحة لم يعد بعدها إلى الخرطوم، ولقد كتب حاكم السودان أيام كان الشيخ الإمام المراغى فيه إلى وزارة الخارجية الإنجليزية قائلاً: إن الشيخ المراغى يُعدُّ من دهاة العالم، وفى خلال ثورة سنة 1919م وكان الشيخ الإمام المراغى بالسودان كتبت صحيفة «التايمز» وهى صحيفة بريطانية مشهورة: أبعدوا هذا الرجل، فإنه أخطر على بلادنا وحياتنا من ويلات الحرب.

فى مصر كان الإمام يتقدم نحو مزيد من العلم والبحث والعمل الجاد الذى أثقل رؤيته وجعله من أئمة عصره المعدودين، فشغل منصب رئيس التفتيش الشرعى بوزارة الحقانية ثم منصب رئيس محكمة مصر الكلية الشرعية ثم فاز بعضوية المحكمة العليا ثم رئاسة المحكمة العليا الشرعية، وكان حصيلة هذه المناصب، هو قيامه بعدة إصلاحات مهمة، حيث أمر بتشكيل لجنة لتنظيم الأحوال الشخصية برئاسته، ووجَّه اللجنة إلى عدم التقيد بمذهب الإمام أبى حنيفة إذا وجد فى غيره ما يُنَاسب المصلحة العامة للمجتمع، وكان القضاة قبل ذلك مقيدين بمذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة، فجعلهم يقتبسون من المذاهب الأخرى ومن آراء المجتهدين بما يناسب الزمان والمكان، وبهذا استطاع أن يقوم بإصلاحات عديدة فى محيط الأسرة الإسلامية، فأصدر فى يوليو سنة 1920م قانون الأحوال الشخصية.

وأثناء عمل الإمام بالقضاء واجه العديد من المحن والاختبارات القاسية فصمد أمامها بشجاعة لا تعرف الخضوع وصمود لا يعرف التهاون، ومنها ما حدث أثناء نظره لقضية، فقد تعرض إلى اعتداء غاشم أثناء نظره لإحدى القضايا فعرض عليه أحد أطراف القضية رشوة ضخمة فى مقابل أن يحكم له، فأعرض الإمام عنه ومضى فى سبيله، ولما كان المجرم يعرف أنه مدان لا محالة حاول أن يمنع الإمام من النظر فى القضية، فاستأجر من يعتدى عليه، فألقى المجرم ماء نار فى وجه الإمام فأصابت منه رقبته وبعض وجهه، وفى تحقيقات القضة أدلى الإمام بأوصاف المجرم ووصفه وصفا دقيقا وهو ما ساعد الشرطة على الإمساك به فاعترف بالواقعة.

بعد أقل من ستة عشر عاما من حصول الإمام على «العالمية» تم تعيينه شيخا للأزهر، وهو مازال فى أربعينيات عمره، وبالتحديد فى عامه السابع والأربعين، فانتوى أن تكون فترة إمامته للجامع الأزهر فترة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فأعد العدة لتنفيذ حلم الإمام حسن العطار والإمام محمد عبده فى تطوير الأزهر وإصلاحه، فدرس مناهج الأزهر وقوانينه وعمل على تنقيح هذه القوانين، واقترح إنشاء ثلاث كليات عليا تتخصص الأولى فى دراسة العلوم العربية، والثانية فى علوم الشريعة، والثالثة فى أصول الدين، لكنه اصطدم برغبة الملك فى الحفاظ على الأزهر تابعا خانعا ضعيفا، فعرض عليه قانون إصلاح الأزهر فرفضه لأن الواشين كانوا قد أوعزوا إليه بأن المراغى يريد أن يستقل بالأزهر عن القصر، وكان رد الإمام حاسما، فأرسل إلى الملك بقانون إصلاح الأزهر فى ظرف، واستقالته فى ظرف آخر، فرفض الملك القانون وقبل الاستقالة ليخرج الإمام من الأزهر شريفا كما دخل إليه، وما هى إلا أشهر معدودات حتى هاج الجامع الأزهر وعمت فيه الإضرابات والمظاهرات المطالبة بعودة الإمام، فعاد الإمام إلى إمامته مرة أخرى وأرجع معه من تم فصلهم عن الجامع لأنهم من مناصريه وتلامذته، ومنهم الإمام محمود شلتوت.

أجمعت أطياف الشعب المصرى آنذاك على محبة الإمام والثقة فيه، حوله تحلق المثقفون والأميون والعلماء والباحثون والسياسيون، وهذا ما مكنه من أن يشق طريق الإصلاح بكلتا ذراعيه، فأدخل إلى الأزهر كليات متخصصة، ووضع نظام التعليم الأزهرى، وشكل لجانا للفتوى، وأنشأ قسم الوعظ والإرشاد لنشر الثقافة الإسلامية فى الأقاليم الخارجية، كما أنشأ جماعة كبار العلماء، واشترط فى أعضائها أن يكونوا من العلماء الذين أسهموا فى الثقافة الدينية، وأن يُقدِّم رسالة علمية تتسم بالجدَّة والابتكار، وجعل أعضاءها ثلاثين عضوًا، وآثر بعضويتها أولى الكفاءات العلمية والأخلاق السامية حتى أصبحت أكبر هيئة دينية فى العالم الإسلامى، وقد حلَّ محلها الآن مجمع البحوث الإسلامية، ورأى قبيل وفاته أن يُنشئ مراقبة خاصة للبحوث والثقافة الإسلامية تختص بالنشر والترجمة والعلاقات الإسلامية، والبعوث العلمية، والدعاة، فصدر قرار بإنشائها فى يوليو سنة 1945م.

وبرغم كل هذه المهام الجسيمة التى تولاها الإمام لكنه لم يقصر فى حق تخصصه الأول وهو التشريع والفقه، وقد كان أحد أهم مجددى الفقه الإسلامى ووريث مدرسة الإمام محمد عبده فى الإصلاح الدينى، معتمدا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأعمال خلفائه الراشدين مشجعا على الاجتهاد ومهاجما من يعارضه، قائلا إنه لا الله ولا رسوله ولا صحابته ولا التابعين ولا تابعى التابعين ولا أى من الأئمة الكبار أمر بغلق باب الاجتهاد، وهو ما يعنى أن غلق باب الاجتهاد غير متوافق مع الشريعة الإسلامية، كما دعا الإمام إلى عدم الاقتصار على الالتزام بآراء الأئمة الأربعة، وأنه يجوز أن يأخذ المسلم بأى رأى سليم من أى عالم دين أو إمام مخالف لإمام مذهبه طالما الأدلة سليمة، كما دعا الإمام إلى توحيد الفقه الإسلامى وعدم «التمذهب» الذى قد يضر بالحياة الدينية والدنيوية على حد سواء، كما تبنى الإمام منهج الأئمة الكبار أمثال الغزالى والشاطبى والعز بن عبدالسلام فى اتباع المصلحة، غير أنه قال إنه يجوز أن يأخذ المسلم بالقول الضعيف إذا كان فيه مصلحة من مصالح الأمة، كما دعا إلى ضرورة التثبت عند نقل ما يسمى بالإجماع، كما دعا إلى الأخذ بالعرف الخاص، وإن خالف المنصوص عليه فى كتب الفقه، كما كان الإمام يرى أنه لا مانع من أن يشتغل رجل الدين بالسياسة بشرط ألا ينتمى إلى حزب أو طائفة وأن يكون عمله بها من أجل الإرشاد إلى الصواب ولرد المخطئ عن خطئه، فالسياسة من وجهة نظره «كياسة فى الموقف وصراحة فى القول، أما كياسة الموقف فإنها تعنى المواءمة بين المصالح والمفاسد فى الموقف واختيار أرجحها فإذا رجحت المصلحة على المفسدة أو قلت المفسدة بين أمرين وافق عليه وما عارضه».

وتبنى الإمام قضية التقريب بين المسلمين وغير المسلمين، مؤكدا أنه يجب على «رؤوس الأديان» أن يتحدوا فيما توافقوا عليه، مرجعا سبب ابتعاد المثقفين عن الدين بأن رجال الدين لم يكونوا راشدين فى هجومهم عليهم وهو ما تسبب فى جرأة المثقفين على رجال الدين وإضعاف الشعور الدينى العام، داعيا الفقهاء إلى تفهم أسباب اعتراض المثقفين على رجال الدين ومحاولة كسبهم فى صفهم لما يتمتع به المثقف المسلم من قوة فى الحجة ومقدرة على الإقناع بدين الله وأخلاقياته لغير المسلمين، موضحا أن المثقفين المسلمين يتميزون بقوة إحساسهم ودقة إدراكهم واستطاعتهم فهم ما بالأديان من معان روحية سامية يصعب فهمها على العامة، قائلا: إن قبس النور مازال باقيا مادام الله رحيما بعباده.

ولك أن تتعجب من وجهة نظر الإمام المراغى التى ساقها اعتراضا على ما يسمى بالإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، فقد قال رحمه الله: «إنه كلما حدثت فى العالم فكرة طريفة اجتهد البعض أن يلتمسها فى القرآن،‏ وفرحوا إن استطاعوا الاهتداء إلى إشارة بعيدة إليها،‏ يفعلون هذا فى جميع النظريات المرتبطة بالكون وأسراره‏،‏ وقواعد الاجتماع والسياسة،‏ ولكن من حقهم أو يفهموا أن المعارف البشرية غير مستقرة‏، وأنها تتغير ويتجدد بدلا منها معارف أخرى تختلف عنها أو تناقضها‏،‏ وأنه ليس من الحكمة أن نربط هذه المعارف غير القارة أى غير المستقرة بكتاب الله الثابت الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏، ‏ومن الخير أن ندع كتاب الله يقرر لنا أحكام التشريع ويهدم الوثنية من أصولها‏،‏ ويرفع العقل البشرى إلى المستوى اللائق به‏، ويأخذ بيد الإنسان إلى المقام الأسمى اللائق بخلافته فى الأرض‏،‏ ويبين لنا العبرة والعظة بأحوال الماضى،‏ ويغرس فى نفوسنا تلك الأخلاق الفاضلة من الصبر والشجاعة والقناعة والرضا‏، ويفتح أمامنا أبواب العلم والهداية بما أشار إليه من وجوب النظر فيما صنعه الله، خير لنا أن نفعل ذلك وندع العلماء يقررون معارفهم ويستدلون عليها‏، ويحملون نتيجة خطئهم إذا تغيرت معارفهم، وأثبت العلم نقيضها‏،‏ فليس القرآن الكريم كتاب حساب‏ وفلك وطبيعة، وإنما هو كتاب هداية وتنظيم لعلاقة الإنسان بربه،‏ وعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض‏».‏

وللإمام الكبير مواقف كبيرة مثله، تدل على صرامته فى الدفاع عن الدين والشرف والكرامة والعزة، فيقول العالم السورى محمد كرد على فى محاضرة له ألقاها فى دمشق عن الإمام المراغى‏:‏ طلبوا من الإمام المراغى يوما أن يترك رئاسة الأزهر ويحصل على ما شاء من الأفدنة والأموال فأبى،‏ وطلبت منه جماعة سياسية معينة أن ينضم إليها ويكون له ولأولاده وذوى قرباه ما شاء من الكرامة فأبى، وقال فى ذلك‏:‏ إن أولادى وإخوتى فى نظرى أقل من أبيع لهم كرامتى‏،‏ وعن المراغى يقول العالم الجليل الشيخ عبدالجليل عيسى‏، وهو تلميذ الإمام المراغى‏،‏ كان المراغى رجلا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، لا يعرف الدجل، ولا الغش‏، ولا الكذب،‏ ولا مجاملة الأقوياء‏، وكان المراغى مصلحا جريئا فى الإصلاح،‏ وكان قاضيا فذا فى القضاء،‏ وكان مشرعا حكيما فى التشريع،‏ خبيرا بروح الشرع ومراميه‏،‏ وكان أديبا ضليعا فى الأدب‏.‏

موقف آخر ظهرت فيه قوة الإمام وصرامته فى مواجهة من يعتدون على الدين، فقد حدث أن أرسل أحدهم إلى الشيخ عبدالمجيد سالم مفتى الجمهورية سؤالا عن حكم الدين فيمن يشرب الخمر ويذهب إلى الحفلات الماجنة، وعرف الشيخ أن المقصود بالسؤال هو الملك فاروق الذى نشرت الصحف خبرا عن حضوره مثل هذه الحفلات فأجابه سليم بحكم الدين فى هذا الأمر ولم يتخوف من شىء، ونشرت الصحف فتوى سليم وقالت إن المقصود بها هو الملك، فغضب الملك كثيرا من هذه الفتوى واتصل بالإمام المراغى يحثه على تكذيب المفتى فقال للملك وكان على خلاف مع المفتى: لن أخذل رأى المفتى، بل لا تطلب منى أن أعين المخطئ على خطئه ولا أن أخطئ المصيب فى إصابته، ولهذا قال عنه الشيخ عبدالمجيد سليم فى تأبينه: «رحم الله الشيخ المراغى وأحسن إليه لقد كان عظيما حقا، وكانت له صفات كريمة وخلال شريفة هيأته لهذه العظمة وجعلته يحتل فى التاريخ هذه المكانة الجليلة، ولقد كان رحمه الله ذا فطرة سليمة صافية يمدها ذكاء شديد واستعداد طيب لاستقلال فى التفكير والميل إلى الحرية والقصد فى الاعتقاد بما يراه أهل التقليد».

واستمر الإمام فى قول الحق والإصلاح ما بقى له من حياته، ومن فتاواه الجليلة أمره بالحياد حيال حرب إنجلترا وألمانيا، وكانت إنجلترا وقتها تحتل مصر وتريد من الإمام أن يجند لها المصريين لتحقق الانتصار، فقال قولته الشهيرة: «إن مصر لا ناقة لها ولا جمل من هذه الحرب وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأية صلة»، وهو ما أغضب رئيس الوزراء الذى اتصل به يهدده فرد عليه الإمام: «أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين وأثرت عليك الرأى العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب».

ولعل أبرز هذه المواقف التى تبرز شجاعة الإمام وصرامته ما حدث مع الملك فاروق حينما طَلَّق زوجته الأولى الملكة فريدة، وأراد أن يُحرِّم عليها الزواج بعده، فأرسل إلى الشيخ يطلب منه فتوى تؤيد رغبته فرفض أكثر من مرة، ولما ضاق الملك ذرعًا بإصراره على الرفض ذهب إليه فى المستشفى مُحتدًّا، فقال له الشيخ عبارته الخالدة: أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التَّحريم فلا أملكه، ثم صرخ بأعلى صوته: إنَّ المراغى لا يستطيع أن يُحرِّم ما أحل الله.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة