بالفعل نحن نعيش أيامًا أسود من الليل البهيم، عندما يقف أحد الأئمة السلفيين فى مرسى مطروح على المنبر، فى صلاة الجمعة، صارخًا ومطالبًا بتطبيق حد الحرابة على الدفعة الأولى من الصحفيين والإعلاميين، وذكر خمسة منهم بالاسم، ونادى بالتوسع وتعميم تلك العقوبة على من سمَّاهم "السفهاء من الصحفيين والإعلاميين والمنافقين الذين يسخرون من أى رمز إسلامى خاصة رئيس الجمهورية"، وحتى الآن لم يخرج عاقل من عقلاء الأمة أو شيوخها مستنكرًا هذا التحريض السافر على القتل وقطع الأيدى والأرجل من خلاف والصلب والنفى، فتلك هى عقوبة حد الحرابة.
هى أيام أسود من الليل البهيم، حتى لو اعتبرنا ما قاله الشيخ السلفى مجرد تهديد لفظى أو دعابة ثقيلة الظل أو جريًا وراء الشهرة، لأننا نعيش بالفعل أجواء حد الحرابة وإشاعة العداء والغل والكراهية ضد الإعلاميين والصحفيين، وتأليب الرأى العام عليهم وتشويه صورهم وملاحقتهم بالاتهامات الكاذبة والدعاوى الكيدية، رغم أنهم لم يخرجوا على الناس بالسلاح لأخذ أموالهم أو قتلهم أو هتك أعراضهم، كشروط لإقامة الحد وإشهار سيوف التقطيع والقتل والتنكيل والنفى.
تعشمنا خيرًا فى العهد الجديد وأن أبواب الحرية والديمقراطية ستُفتح على مصاريعها لاستقبال نسمات الفجر المنعشة، لكنها لم تأتِ إلا بالدخان والتلوث والخوف من المستقبل، وعليه اختفت البسمة من الوجوة، وحل محلها اليأس والقلق والإحباط، وازداد الطين بلة عندما كشرت دولة الإخوان عن أنيابها، واستخدمت نفس الأسلحة الفاسدة التى كانت تُستخدم ضدها، فى ملاحقة ومطاردة معارضيها أو من سمتهم "سحرة فرعون"، مضافًا إليها هذه المرة خطاب دينى بالغ التشدد والتطرف والعداء، وكتائب من المتشددين لا تواجه خصومها بالحوار والرأى والحجة والدليل، بل باليد والضرب، وليس اللسان، وهو أضعف الإيمان.
رجعنا إلى ما قبل المربع صفر، وعاد زمن الإغلاق والمصادرة والاعتداء على الصحفيين، وأصبح الإعلام الذى فتح للإخوان قلبه وعقله وصفحاته حتى أخذ بأيديهم إلى مقعد السلطة، هو العدو رقم واحد وأُعدت القوائم السوداء، وخرجت التصريحات تهدد الإعلاميين بأنهم لهم ملفات منذ ولدتهم أمهاتهم فيها فضائحهم وانحرافاتهم وأسرار حياتهم الشخصية، وتتوعد بفتحها ونشرها إذا لم يرتدعوا ويغلقوا أفواههم ويتعلموا الأدب ولا يتجرأوا على أسيادهم.
هى أيام أسود من الليل البهيم، لأننا تصورنا أننا شيعنا أدوات القمع والقهر القديمة إلى مثواها الأخير، وأنها ذهبت دون رجعة، ولكن يبدو أنها عادت دون استئذان أشد عنفًا وشراسة وضراوة، ترتدى أقنعة سوداء وقبضات حديدية وتهدد المجتمع كله بحروب أهلية من نوع جديد، تكميم الأفواه وإرهاب العقول والتخويف والترهيب، وربما يتطور الأمر إلى الأسوأ بإحياء ترسانة القوانين العتيقة المعادية للحرية والديمقراطية، ومازالت رابضة فى "أضابير" التشريعات المصرية منذ أيام العثمانيين، قوانين عفنة كانت فلسفتها الولاء للسلاطين والأمراء والحاشية، وإلا فـ "العصا لمن عصى"، و"مقرعية يا مقرعة"، واحتفظت بها الأنظمة السابقة لتخرجها من جرابها عند اللزوم للضرب والمقرعة.
تعشمنا خيرًا فى ديمقراطية لها مذاق حلو مختلف، تفتح قلبها وعقلها وذراعيها للمعارضين قبل المؤيدين، وتعالج أخطاءها بمزيد من الديمقراطية، وتفتح النوافذ المغلقة لطرد الهواء الفاسد واستبداله بهواء نقى جديد، ديمقراطية قوامها المشاركة وليس التكويش، لم الشمل وليس التفتيت، المصالحة وليس الثأر، الحوار وليس المصادرة، ديمقراطية تقول للشيخ السلفى الذى يطالب بتطبيق حد الحرابة على الدفعة الأولى من الإعلاميين: إنكم تعودون بنا إلى أشد العصور ظلامًا وتطرفًا وانغلاقًا، وتبذرون فى تربة هذا البلد الآمن بذور الكراهية والدم، التى ستطالكم قبل غيركم.
هى أيام سوداء لن ينقشع ظلامها إلا إذا توقفت حملات العداء والكراهية التى تريد إطفاء أنوار الحرية والديمقراطية، وأن يؤمن الذين يحكمون البلاد اليوم بالحكمة القائلة "لو دامت لغيرك، ما وصلت إليك".