وائل السمرى يكتب: عبدالرحمن الكواكبى.. قاهر الاستبداد وفاضح الاستعباد.. قال إن المستبد محتاجٌ لـ«عصابة» تعينه وتحميه وإنه «يتوج صدره بالنياشين والأوسمة» وأتباعه «سماسرة يغررون بالأمة باسم خدمة الدين»

الإثنين، 13 أغسطس 2012 09:06 ص
وائل السمرى يكتب: عبدالرحمن الكواكبى.. قاهر الاستبداد وفاضح الاستعباد.. قال إن المستبد محتاجٌ لـ«عصابة» تعينه وتحميه وإنه «يتوج صدره بالنياشين والأوسمة» وأتباعه «سماسرة يغررون بالأمة باسم خدمة الدين» عبدالرحمن الكواكبى
وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء


هو صاحب الصرخة العربية الإسلامية الأصيلة ضد كل مستبد، وهو هادم أفراح الطغاة، ومنغص ملذاتهم فى كل حين، وهو صاحب المقولة الخالدة: المستبدُّون يتولاهم مستبدّ، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: «كما تكونوا يُولَّى عليكم»، وهو صاحب النداء الشهير: إلى متى هذا الشقاء المديد والنّاس فى نعيمٍ مقيم، وعزٍّ كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخُّر، وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل! يا قوم أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مُبتلون بداء التقليد والتبعية فى كلِّ فكرٍ وعمل، وبداء الحرص على كلِّ عتيق كأنَّكم خُلِقتم للماضى لا للحاضر، تشكون حاضركم وتسخطون عليه، وعليكم أن تدركوا أنَّ حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلِّدون أجدادكم فى الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلِّدونهم فى محامدهم.

هو عبد الرحمن الكواكبى الفقيه المسلم العربى الشامى المصرى صاحب كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى كتبه مطلع القرن الماضى فخلد اسمه فى تاريخ العرب والإنسانية كأحد أهم المنتفضين ضد الاستبداد ورجاله، وأحد أخصب المسلمين فكرا ورؤية وبلاغة، وأحد أهم المناضلين ضد التخلف والتبعية والتقليد والجهل والزيف والنفاق والجشع والبلاهة والجبن والتواكل والخنوع والاستكانة والركود والجمود والفساد بكل أشكاله وألوانه وطرائقه.

هو فخر الأمة الإسلامية وفقيها السياسى الرائد الذى لو كان فى أمة غيرها لأصبح أحد أشهر علاماتها الحضارية ولتقرر كتابه على طلبة المدارس والجامعات كما فعل الغرب مع منتيسيكو صاحب كتاب «روح الشرائع» وهارولد لاسكى صاحب كتاب «نظرية الدولة»، هو المولود فى حلب والقلق الذى لم تهدأ روحه ولم يستقر إلا فى مصر حينما كانت مصر «مصر» فقد ولد الكواكبى فى سنة 1855م لأسرة عربية، ثم مكث فى أنطاكية ثلاث سنوات بعد وفاة أمه ليعود بعدها إلى حلب، ليتعلم فيها القراءة والكتابة، وليتم قراءة القرآن وحفظه، ثم ينهل من علوم الفقه والدين ويتعلم الفارسية والتركية ويدرس الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضة فى المدرسة الكواكبية، التى كانت تتبع مناهج الأزهر فى الدراسة، وكان يشرف عليها ويدرّس فيها والده.

حياة الكواكبى المليئة بالتجارب أثقلته بتجارب لم يكن ليتحصل عليها لولا شقاؤه فى النضال من أجل الحرية التى قدسها القرآن وعظمتها السنة وشوهها المستبدون، فلم يجف قلمه يوما مدعما للحرية ومعاديا للاستبداد فى كل صوره، يتقلب فى الكتابة من جريدة إلى جريدة، ويضطهده الطغاة فى كل مكان، حتى إنه وهو المدافع الشرس عن الدين الإسلامى وشريعته السمحة يقف ضد الدولة العثمانية وينتقدها حينما أرادت أن تطمس هوية المسيحيين بتغيير أسمائهم بأسماء إسلامية كشرط لقبولهم فى الجيش، ولأنه لم يكن يوما ليستحب العيش فى كنف الفساد تقلب فى الوظائف وهاجر إلى بلدان كثيرة ليحتفظ بمبادئه على حالها حتى حط رحاله فى مصر سنة 1900 وقد كانت قبضة الخليفة العثمانى عليها ضعيفة منذ قيام دولة محمد على، وكانت فى هذا الوقت تنعم بأجواء ثقافية مزدهرة بفضل مجهودات رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وتلاميذهم، لكن للأسف تصل إليه يد الاستبداد فى مصر ويقتل فيها بعد أن يتم دس السم له فى القهوة، حيث قال لصديقه قبل وفاته بلحظات: «لقد سمونى يا عبدالقادر»، ولم يكن الموت المادى هو التنكيل الوحيد الذى تعرض إليه «الكواكبى» فقد تعرض لقتل آخر أشد قسوة وهو القتل المعنوى فأوعز السلطان عبدالحميد إلى أحد أصدقائه بأن يسرق مسودات كتبه وهو ما حدث بالفعل، فلم يصلنا إلا كتاباه المطبوعان «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» هذا الكتاب الذى وضع اسم الكواكبى عاليا بين أئمة المجددين وعظماء الفكر الإسلامى الإنسانى.

لم ير الكواكبى أحط وأقذر من الاستبداد، فحاربه بكل ما أوتى من قوة، معتبرا إياه أساس كل بلاء وتخلف وظلم وفساد، فأخذ يبحث فى كتابات المسلمين وغيرهم عن أثر الاستبداد فى حياة الشعوب، ووعى ما كتبه الرّازى، والطّوسى، والغزالى، والعلائى، والمعرّى، والمتنبّى، وابن خلدون، وابن بطوطة، فخلص إلى تعريف علم السّياسة بأنّه «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» أما تعريف الاستبداد فهو «التّصرُّف فى الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى» قائلا إنه: غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، وأشد درجاته حينما تكون «حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية» واصفا المستبد بأنه «عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، والحق أبوالبشر، والحرّيّة أمّهم» وأنه «يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً».

لكن الكواكبى الذى عرف الشعوب واختلط بثقافاتهم يوقن من أنه لم يكن لمستبد أن يتسيد على الناس إلا إذا وجد البيئة المناسبة له، فيقول منزها ذات الله عن الرضا بالاستبداد «إنَّ الله عادلٌ مطلقٌ لا يظلم أحداً، فلا يُولَّى المستبدّ إلا على المستبدِّين. ولو نظر السّائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كُلَّ فرد من أُسراء الاستبداد مُستبدّاً فى نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كُلَّهم، حتَّى ربَّه الذى خلقَهُ تابعين لرأيه وأمره»، وبالطبع لا يستشرى هذا الداء فى الشعب إلا إذا علت ثقافة التعصب على ثقافة الحوار، وغلبت العنصرية على الإنسانية، وعلا التحزب والمتذهب على الانصهار فى المبادئ السامية والإيمان بقوة الفضائل الإنسانية المشتركة، لذلك يرى الكواكبى أن جعل الشعوب أقليات متحاربة هى عادة المستبدين، وأن معين المستبد السياسى الأول على زرع هذه الآفة هو المستبد الدينى، فيقول: «الاستبداد السّياسى مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّينى.. أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة، وبينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان».

ويمضى الكواكبى منزها الدين عن الاستبداد ومؤكدا أن المستبد هو الذى يتجرأ على ذات الله ويوهم الناس بأنه قضاء الله وقدره أو أنه اختيار الله أو أنه ظل الله على الأرض أو أنه المؤيد بشرع الله فيقول «ما من مستبدٍّ سياسى إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذى علاقة مع الله. متخذا من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله»، قائلا إن الإسلام «نزعَ كلَّ سلطة دينية أو تغلّبيّة تتحكَّم فى النّفوس أو فى الأجسام، ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكلِّ زمان وقوم ومكان، وأوجد مدنيّة فطريّة سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين»، ويؤكد الكواكبى أن هؤلاء الحكام الذين يتخذون الدين ستارا لتمرير سياساتهم ليسوا من الدين فى شىء، وأنهم لا يمثلون الدين بأى حال من الأحوال، فيقول «لا مجال لرمى الإسلامية بتأييد الاستبداد» وأن القرآن الكريم أمرنا باتخاذ الشورى أساسا للحكم «وشاورهم فى الأمر» وأن الشريعة الحقة هى التى تطبق العدل «إن الله يأمر بالعدل» و«وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، والعدل عند الكواكبى يعنى المساواة والاشتراكية، ثم يؤكد الكواكبى أن الإسلام لم يحرم الخروج على الحاكم الظالم، وأنه أقر «عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التى تحصد أمثالهم حصداً»، ويستنكر الكواكبى عدم انتفاض المسلمين على الظلم والتمييز وهدر الحقوق الإنسانية ورضاهم بها وكأنهم لم يسمعوا حديث رسول الله «النّاس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتّقوى» أو الآية التى تقول «إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم» أو الأخرى التى تقول «ولقد كرَّمنا بنىَ آدم»، منتقدا تفسير آيات القرآن بالهوى والميل إلى الحاكم الذى يستعبد المحكومين وإغراق المسلمين بتفاصيل وجزئيات تبتعد عن روح الشرع جاعلة المسلمين فى حرج دائم من غضب الله رغم أنه الله تعالى رفع الحرج عن المسلمين فى اتخاذ ما يرونه صالحا لشؤون دنياهم، وهو ذات المنهج الذى انتهجه أهل الديانات السابقة الذى كانوا يحرفون الكلم عن مواضعة ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ولا يجد الكواكبى حيال ذلك إلا رفع أكف الضراعة إلى الله قائلا: اللهم إنّ المستبدِّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدِّين الذى أنزلت، فلا حول ولا قوّة إلا بك! مؤكدا أن الداء الأكبر هو «خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنَّا جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البِدَع والتشديد، دين الإجهاد».

ما من عدو للمستبد إلا العلم والعلماء أصحاب الرأى والحجة والبرهان الذين لا يخشون فى الحق لومة لائم ولا يتزلفون ولا يتصاغرون، هذا هو ما خلص إليه الكواكبى فى تناوله لمسألة علاقة الاستبداد بالعلم، فيقول «لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط فى ظلامة جهل وتيه وعماء، فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفّاشاً يصطاد هوام العوام فى ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقّف دواجن الحواضر فى غشاء الليل، ولكنّه هو الإنسان يصيد عالِـمَه جاهلُهُ، وأن كلَّ رئيس ومرؤوس يرى كلَّ سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته، فيسعى العلماء فى تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ فى إطفاء نورها.

ويتطرق الكواكبى لظاهرة متكررة فى التاريخ وهى أن حاشية المستبد هى أول من يسارع بالإطاحة به بل ويورد أيضا أسباب ذلك قائلا: «أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم، لأنَّ هؤلاء أشقى خلق الله حياةً، يرتكبون كلَّ جريمةٍ وفظيعة لحساب المستبدِّ الذى يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين، يُجهدون الفكر فى استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرِّح» ويشرح الكواكبى كيف أن الإسلام حارب الاستبداد بالحث الدائم على العلم والتزود من المعرفة والابتعاد عن الخرافات والتضليلات.

ما حيلة المستبد فى تدعيم ملكه الذى يعلم أنه زائل فانٍ؟ هذا ما يجيب عنه الكواكبى فيقول: إن المستبد يحتال على الناس بأن يمجد نفسه وأن يمجد أعوانه وعماله بمنحهم الألقاب والصفات وأنه يتوج صدره بالنياشين والأوسمة ليوهم الناس بعظمته، وأنه «يعلِّق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان» وفى حين أن المستبد وحاشيته دائما ما يتغنون بقيم الحرية والعدالة والمساواة والفضيلة لكنهم فى الحقيقة «أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة» وأنه يتخد من أعوانه «سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حبّ الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أنَّ كلّ هذه الدواعى الفخيمة العنوان فى الأسماع والأذهان ما هى إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها.

ولم يفت الكواكبى أن يشير إلى بعض أذكياء المستبدين الذين يحاولون أن يتزينوا بزينة العادلين فيجربون بعض العقلاء فى المناصب ويستقون بدعم هؤلاء العقلاء لهم، لكن مصير هؤلاء يكون معلوما محتوما فسرعان ما يبعدهم المستبد وينكل بهم إذا لم يفسدوا، ولذلك يستعين المستبد دائما بأبناء «العريقين فى خدمة الاستبداد الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدّين» ويصف الكواكبى لحظة اعتلاء المستبد للعرش فيقول: إنه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يُرجع النظر فيرى نفسه فى نفس الأمر أعجز من كلِّ عاجز وأنَّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، ثمَّ يلتفت إلى جماهير الرّعية المتفرجين، منهم الطائشون المهللون المسبِّحون بحمده، ومنهم المسحورون المبهوتون كأنهم أموات» ولكن الشىء الوحيد الذى يفسد هذه اللحظة الفارقة هو أن المستبد يعرف أن بالبلد عقلاء حكماء علماء مثقفين يراقبونه ولا يتورعون عن معارضته : «وعندئذٍ يرجع المستبدُّ إلى نفسه قائلاً: الأعوان الأعوان، الحَمَلَة السَّدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيشٍ من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لى مُلْكٌ كيفما أكون، بل أبقى أسيراً للعدل معرَّضاً للمناقشة منغَّصاً فى نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً جباراً متفرِّداً قهّاراً، ولذلك يقول الكواكبي: المستبدَّ لا يخرج قطّ عن أنّه خائنٌ خائفٌ محتاجٌ لعصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوص.. فوزير المستبدّ هو وزير المستبدّ، لا وزير الأمّة وكذلك القائد يحمل سيف المستبدّ ليغمده فى الرقاب بأمر المستبدّ لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تقلِّد القيادة لمثله.

ويصف الكواكبى علاقة المال بالحاكم المستبد قائلا: ومن طبائع الاستبداد، أنَّ الأغنياء أعداؤه فكراً وأوتاده عملاً، فهم ربائط المستبدِّ، يذلُّهم فيئنّون، ويستدرّهم فيحنّون، ولهذا يرسخ الذلُّ فى الأمم التى يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبدُّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التى ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضاً قلوبهم التى لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءةٍ ونذالة، خوف البغاث من العقاب وقد يبلغ فساد الأخلاق فى الفقراء أن يسرّهم فعلاً رضاء المستبدِّ عنهم بأى وجهٍ كان رضاؤه، ويؤكد الكواكبى أن أنبياء الله قد عملوا على تخليص البشرية من هذه الصفات المذمومة بعدة طرق منها «تقوية حسن الإيمان والاجتهاد فى تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته فى أفكاره، واختياره فى أعماله، وإطلاق زمام العقول «وبذلك هدموا حصون الاستبداد وسدّوا منابع الفساد» ويبرز الكواكبى دور الطليعة المثقفة التى يحاربها المستبد دوما ويجتهد فى إقصائها ومصادرة آرائها والتنكيل بها وتسليط أعوانه عليهم قائلا: وقد أجمع الحكماء على أنَّ أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمَّة، الذين فيهم نسمة مروءة وشرار حمية، الذين يعرفون ما هى وظيفتهم بإزاء الإنسانية، الملتمسين لإخوانهم العافية، أن يسعوا فى رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها فى النموِّ فتمزِّق غيوم الأوهام التى تمطر المخاوف، شأن الطبيب فى اعتنائه أولاً بقوة جسم المريض.
ويشرح الكواكبى أسباب ثورة العامة على الحاكم ويجملها فى عدة أسباب منها إذا رأوا مشهدا دمويا مؤلما يوقعه المستبدُّ على المظلوم، أو عقب حرب يخرج منها المستبدُّ مغلوباً، أو عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين، أو عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير أو فى حالة مجاعة أو مصيبة عامّة، أو عقب عمل للمستبدِّ يستفزُّ الغضب الفورى، كتعرُّضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز فى الشرق، وتحقيره القانون أو الشرف الموروث فى الغرب أو عقب ظهور موالاة شديدة من المستبدِّ لمن تعتبره الأمَّة عدوّاً لشرفها.

ولا ينسى الكواكبى أن يضع ما يشبه الدستور المنظم للحقوق والحريات، فى خمسة وعشرين مبحثا تهتم ببناء الدولة وصلاحيات الحكومة وأولويات الحكم وهو الدستور الذى يضاهى فى عدالته وإحكامه أجمل الدساتير وأكملها طالبا من المجتمع بأسره أن يتكاتف من أجل رفع الاستبداد قائلا «الأمَّة التى لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة» ومقترحا أن تتم تلك المقاومة التنوير والإصلاح والتدرج والتثقيف، وناصحا من ينون تغيير المستبد ومقاومته بتهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد، ويختم الكواكبى كتابه الرائد الذى يشعر الواحد وهو يطالعه أنه يقرأه الآن بالقول: هذه قواعد رفع الاستبداد، وهى قواعد تُبعد آمال الأسراء، وتسرُّ المستبدّين؛ لأنَّ ظاهرها يؤمنِّهم على استبدادهم. ولهذا أذكِّر المستبدّين بما أنذرهم الفيارى المشهور؛ حيثُ قال: «لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير»، وإنى أقول: كم من جبّار قهّار أخذه الله أخذ عزيزٍ منتقم.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة