على شاطئ البحر عند لسان السلسلة فى الإسكندرية، يقف منذ عام 1968 تمثال عروس البحر والأشرعة المنطلقة، الذى أبدعه الفنان الراحل فتحى محمود، وأهداه للمدينة التى يعشقها العالم، لقد شاهدت وضع التمثال ذلك الوقت الذى كان محط إعجاب وانبهار أهل الإسكندرية وزوارها من كل مكان. لاشىء يشرح معنى التمثال ولا قصته، لكن اسمه كتمثال عروس البحر صار علامة عليه. كان المدهش فى التمثال لونه الأبيض الشاهق البياض، والثور القوى الذى يحيط بالمرأة الجميلة التى استسلمت له. عروس البحر، كما نعرف، هى كائن خرافى له وجه امراة وجسد السمكة، لكن المرأة هنا جميلة وكاملة التكوين. وقصة التمثال هى الأسطورة اليونانية القديمة عن زيوس رب الأرباب الذى شعر بالملل فى حياته مع هيرا زوجته القوية فوق جبل الأولمب، فقرر كعادته حين ينتابه هذا الملل أن يترك مكانه فوق الجبل وينزل ليعاشر امرأة جميلة من الأرض. الأساطير اليونانية، كما نعرف، لا تفصل بين الآلهة والبشر، فكم من البشر كانوا من أبناء الآلهة حين يلتقى إله بامرأة أو إلهة برجل، لذلك غلب على كل شخصياتها الجمال المطلق والحركة. نظر زيوس من مكانه العالى فوق الأولمب يتطلع إلى نساء الأرض تحته فوقعت عيناه على «أوروبا» بنت ملك مدينة صور بالأرض التى سميت لبنان فيما بعد، كانت جميلة ومنطلقة ولا تكف عن الخروج إلى المروج والشاطئ مع رفيقاتها، فقرر زيوس أن يفوز بها. لكن كيف؟ كانت ثيران الحاكم بدورها تظهر قريبا من الشاطى على المروج الخضراء كل يوم، وتلعب ابنة الحاكم أوروبا بينها. كانت الثيران كلها سوداء، هبط زيوس من عليائه فى صورة ثور أبيض شاهق البياض، فكان طبيعيا أن يكون مميزا بين الثيران ولافتا للنظر. أقبلت عليه أوروبا الجميلة وقد راقها بياضه وجماله. ما إن اقتربت منه حتى نام على ظهره سعيدا بها، فراحت تعبث بيديها فى صدره وهو لا يقاوم، بل يبتهج ويشجعها على الاطمئنان إليه، حتى إذا رآها اطمأنت اعتدل ووقف وطلب منها أن تركب على ظهره، ففعلت سعيدة وراح يتحرك بها بين المروج حتى وصل إلى الشاطئ القريب ثم نزل بها إلى الماء. طلبت منه العودة إلى الشاطئ لكنه رفض واستمر يتقدم بها فى الماء، ثم أسرع وعبر بها البحر حتى وصل إلى جزيرة كريت، وهناك عاد إلى صورته الأصلية، زيوس رب الأرباب. طبعا لم يكن ممكنا أن ترفضه الفتاة الجميلة، فهو القوى الذى تخضع له كل الآلهة، فأنجب منها ثلاثة أطفال ثم أخذهم إلى الأرض القريبة التى حملت اسم أوروبا وهى قارة أوروبا الآن، هذه حكاية التمثال. كل أحداثها بعيدة عن الإسكندرية التى كانت معروفة فى الأساطير اليونانية القديمة قبل أن ينشئها الإسكندر بالجزيرة االتى وراء بحر الظلمات. إذن ما علاقة الإسكندرية بالأسطورة؟ العلاقة هى بين الإسكندرية وأوروبا. فالإسكندرية هى بنت اليونان الذين قدموا من أوروبا، والإسكندرية هى التى امتزجت فيها الحضارة اليونانية والرومانية بحضارة الشرق، والإسكندرية هى التى كانت منارة الدنيا لأكثر من ستة قرون عرفت بالعصر السكندرى التى شملت الحقبة البطلمية وبعضا من الحقبة الرومانية قبل الفتح الإسلامى. العلاقة بين الإسكندرية وأوروبا عظيمة على طول التاريخ. بدأت باليونان الذين يمثلهم زيوس واستمرت مع كل من كان يعبر البحر المتوسط من هناك أو يذهب إليه منها. التمثال هو زيوس فى هيئة الثور وأوربا الجميلة التى استسلمت له، أما الأشرعة فهى العبور فى الزمن والمكان إلى فضاء العظمة فى التاريخ، واللون الأبيض هو النور الذى تبادلته الإسكندرية مع أوروبا. التمثال ليس من الحجر الطبيعى، بل من الحجر الصناعى وفى قلبه خرسانة مسلحة يحيط بها هذا الحجر. ومكانه على البحر يعرضه طبعا للرطوبة التى تؤثر على الحجر الصناعى، ومن ثم فالترميم كان يتم للتمثال تقريبا كل عامين فى مكانه الذى لايمكن أن يكون غير ذلك، لأن التمثال والأشرعة كلها تمثل حضارة البحر المتوسط. كثير من المتفرجين على التمثال لا يعرفون أنه من الحجر الصناعى وبعضهم يصعد عليه أو يضع أطفاله فوقه مما يعرضه أيضا للتلف والتأثر. لكن ظل التمثال صامدا لخمس وأربعين سنة باعتبار عمليات الترميم الدائم وصار مع الزمن معلما من معالم الإسكندرية. فى زيارتى الأخيرة هناك وجدت التمثال فى حالة يرثى لها من الخراب والتخريب. ولا أريد أن أتهم أحدا بالتخريب المتعمد لأنى أعرف الإهمال الذى شهدته المدينة بعد الثورة، وكل المدن المصرية فى الحقيقة، حيث لم يعد العاملون فى مواقعهم الخدمية يقومون بعملهم الطبيعى، وهكذا لم يلتفت أحد إلى هذا النصب الرائع، ولا ما يحدث له من خراب، ولقد صار الآن أقرب إلى الانهيار الكامل. من المسؤول عن ذلك؟ وهل تقف المحافظة عاجزة عن ترميمه أو هيئة الآثار أو أية جهة مسؤولة. هذا واحد من روائع النحت العربى التى أقامها الفنان الكبير فتحى محمود الذى توفى عام 1982 وترك خلفه مجموعة من الأعمال الرائعة فى أكثر من مكان فى مصر. ليت أحدا من مسؤولى المدينة يتحرك لإنقاذ هذا التمثال الذى يلخص حضارة الإسكندرية المتوسطية التى حين ضاعت ضاعت أشياء كثيرة عظيمة فى مصر.. ليس جميلا الاعتداء على رمز الحضارة المتوسطية فى الإسكندرية ابنة المتوسط، حتى لو كان هذا الاعتداء إهمالا من المسؤولين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة