فقهاء التنوير
بقلم وائل السمرى
فى رحلتى مع الفقهاء عرفت أن الإسلام الذى ندين به غير الإسلام الذى يصدرونه لنا، وأيقنت أن هناك حربا حقيقية بين الوهابية المنغلقة والإسلام الرحب
لماذا لم يستخرج لنا العلماء منهجا من فقه الصحابة لنفكر مثلما فكروا لا أن نأخذ ما رأوه مناسبا فى عصرهم ولماذا نحرم أنفسنا من التجديد وهو سنة مؤكدة؟
دعوة إلى الأزهر ووزارة الثقافة إلى عمل مركز إسلامى مستنير باسم الإمام محمد عبده ليخرج لنا أئمة مجددين لا حفظة منغلقين
ذات يوم سألت نفسى: لماذا جعل الله الإسلام هو الدين الخاتم، ولماذا جعل الله نبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم تاج الأنبياء؟ وما أظن أن هذه الحلقات الثلاثين إلا إجابة عن هذا السؤال.
نعم، كانت هذه الحلقات التى توغلنا فيها فى عمق الفقه الإسلامى وفى تاريخ الإسلام ومذاهبه وأعلامه المجددين الصالحين الأبرار، إجابة عن هذا السؤال، فقد انفرد هذا الدين بخصائص لم تتيسر لغيره جعلته الدين الخاتم وجعلت من التطور سنة مؤكدة، ومن السؤال بداية للاجتهاد، ومن الاجتهاد آلية دائمة تضمن ضخ الدماء الجديدة فى أوردة الفقه الإسلامى فيتجدد شباب الإسلام بآراء الصالحين والأعلام، وسبحان من جعل اسم العلم الموكل إليه البت فى أمور المسلمين ومستجداتهم هو «الفقه» والفقه فى اللغة يعنى الفهم، ويقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «من يرد الله به خيرا يفقه فى الدين»، أى يفهمه أموره ودقائقه وتفاصيله وأحكامه، ولا يتيسر الفهم إلا بالعقل وإقامة الحجة والإتيان بالبرهان، فمن أبرز منجزات الإسلام أنه بلا كهنوت ولا وصاية، يخاطب العقل وحده فيزداد الواحد اقتناعا به، يخاطب أحرارا لا يفعلون إلا ما يعتقدون، ولا يقتنعون إلا بما يوافق المنطق ويسلم به العقل دون إجبار أو ترهيب أو تفزيع بما وراء العقل وما يجافى المنطق، وليس أدل على أن الإسلام بحاجة دائمة إلى من يتفقه فى أمره كل حين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، فسبحان من جعل تجديد الدين سنة من سننه، وسبحان من أخرس حجج المتنطعين الذين يريدون أن يغلقوا علينا عقولنا بحديث صحيح واضح المعنى جلى الألفاظ، يجزم بضرورة التجديد على أيدى رجال الفقه أو إن شئت قل رجال الفهم، لا رجال الحفظ والتلقين والانغلاق.
تلك سنة رسول الله التى كفلت لنا عدم التمزق بين الدين والحياة، ورفعت عنا الحرج فى الدنيا والآخرة، وهذا ما وعاه الصحابة الأجلاء ونفذوه، لكن يبدو أن هنالك من لا يريد أن يقتنع بتلك السنة، ومن لا يريد أن يتصالح الدين مع الدنيا ليبقى المسلمون منفصلين عن واقعهم شاعرين بأن كل ما يفعلونه فى دنياهم إثم أو ذنب، فيهرعون إلى كهنة الدين الجدد الذين يتسلطون على رقاب العباد ويتشددون فى أمور الدين حتى يثبتوا لمن يسألهم أنهم من دونهم عصاة مجرمون مذنبون، ولا يعدم الواحد منهم من ذكر بعض الآيات أو الأحاديث لتأييد وجهة نظره التى يقطعها من سياقها ويحذف عنها سبب نزولها ويفصلها عن غيرها من الآيات والأحاديث حتى يهيمن على أدمغة السائلين، ويوهمهم بأن نصوص الدين تأمرهم بفعل كذا أو كذا ويتناسى أن الله جل وعلا لم يقصد من شريعته إلا جلب الخير كله وإبعاد الشر كله، ولم يقصد بها أبدا أن يعذب عباده بها فى الدنيا والآخرة، ولك أن تقارن بين موقف الذين يدّعون أنهم يتحدثون باسم الله ولا ينطقون عن الهوى، وواحد مثل الإمام المراغى الذى أسهم بمجهوداته فى إعلاء كلمة الإسلام ورد الشبهات عنه وتطوير الأزهر وهو بيت الإسلام الأكبر حينما قال للجنة وضع القوانين فى عشرينيات القرن الماضى: ضعوا ما ترونه فى مصلحة المسلمين من قوانين ومواد وسآتى لكم من الشريعة بدليل على صحته، ولو كان هناك من يرى فى جملة المراغى تلك عيبا فليس هذا إلا لمرض فى نفسه، فما قال المراغى هذا وهو الذى صاح فى الملك فاروق قائلا إن المراغى لا حرم ما أحله الله إلا ليقينه من أن الله رحيم بعباده، ويقينه من أن الإسلام صالح فى كل زمان ومكان، وأن أعلامه المجددين اجتهدوا ليجعلوا الحياة فى ظل الإسلام «حياة» لا موات.
وما دمنا قد تطرقنا إلى الإمام المراغى فلا بد لنا من وقفة عند هذا الرجل العالم المعلم الذى أسهم بعلمه وتفقهه فى أن يستنهض الدين من ضيق الشروح والحواشى وحواشى الحواشى إلى الفضاء الأرحب، داعيا إلى أن يحفظ الفقهاء قوله تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» و«ما جعل عليكم فى الدين من حرج» قائلا: «يجب أن يسيطر هذان النصان سيطرة تامة على جميع أمور التشريع الإسلامى، فإذا ما وجدنا أن النصوص الخاصة ببعض الأمور يوقع فى الحرج أو يحدث الضرر فيجب أو تقف النصوص الخاصة عن عملها فى تلك المواطن، وأن يعمل بالنص العام القاطع الموجب لنفى الحرج» فلننظر إلى هذه الدعوة الكريمة التى أراد بها الإمام أن يطلق عنان الاجتهاد فى إطار شرعى من الدين الخاتم الذى لا يعادى عصرا ولا يقتل علما ولا يقوض حلما.
ما أحوجنا الآن إلى التشبث بالقيم التى زرعها فقهاء التنوير الذين تناولناهم فى الحلقات الثلاثين فى جسد حضارتنا الإسلامية، ما أحوجنا الآن إلى كل هؤلاء مجتمعين فى واحد أو فى مؤسسة أو فريق، وللحق فقد زادتنى هذه الحلقات خبرة وعلما، فأنا لا أدعى أنى عالم فقه أو خبير تاريخ أو مرجع أو حجة فى شىء من هذا، وما أنا إلا تلميذ طلبت العلم فوجدته متحققا فى هؤلاء، وللحق أيضا فقد حرمتنى محدودية أيام رمضان التى شهدت هذه الحلقات فحصرتها فى ثلاثين حلقة فقط من أن أتناول أعلاما لا يقلون أهمية وتجديدا من هؤلاء الذين ذكرتهم، فرغما عنى والتزاما بالحلقات الثلاثين اضطررت إلى استبعاد الكثير من الأسماء مثل الصحابى ابن مسعود، الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام الشوكانى، والإمام الجوينى، والعالم محمد البهى، والفقيه مصطفى الزرقا، والشيخ يوسف القرضاوى، والمجدد معروف الدواليبى، والإمام عبدالحليم محمود، والإمام محمد الغزالى، وغيرهم كثير من رموز حضارتنا مجددو إسلامنا، ولقد لاحظت من واقع خبرتى المحدودة أثناء العمل على إنجاز هذه الحلقات افتقارنا إلى الدراسات الفقهية الجادة، ولاحظت أيضا أننا واقعون ما بين فقه مضى وهو كثير ولكن بحاجة إلى مراجعة وتجديد، وفقه محدث وهو قليل جدا ويكاد ينحصر فى بعض الأسماء التى تعد على أصابع اليدين، فما أشقانا ونحن نتحدث عن الشريعة الإسلامية ليل نهار أن يكون هذا هو حالنا وحال فقهنا.
من الملاحظات أيضا أننى وجدت تجاهلا لا أعرف سببه لما يمكن أن نطلق عليه «فقه الصحابة» وأعتقد أنه من الواجب الآن أن ندرس بشىء من التفصيل الفقه العمرى «نسبة لعمر بن الخطاب، والفقه العلوى «نسبة لعلى بن أبى طالب» والفقه المسعودى «نسبة لعبدالله بن مسعود» والفقه العثمانى «نسبة لعثمان بن عفان»، لنعرف كيف كان هؤلاء العظماء يفكرون فى ما استجد من أمور، على أن ينصب اهتمامنا إلى الكيفية التى كانوا يفكرون بها والآلية التى كانوا ينتهجونها ليستخرجوا الأحكام، وهى الدعوة التى أشار إليها من بعيد الإمام محمد أبو زهرة فى مقدمة كتابه «محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية» حيث قال إنه من الصحابة من اشتهر بالرأى والقياس مثل عبدالله بن مسعود، وعلى بن أبى طالب مع أخذهما أحيانا بالمصلحة، ومنهم من أفتى بالمصلحة ذاتها مثل عمر بن الخطاب بل كان يقول لأبى موسى الأشعرى «الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدر مما ليس فى كتاب أو سنة، اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك» هذا فى شؤون الشرع أمام فى شؤون الدنيا لدراسة فقهه أهمية بالغة وهو المؤسس الفعلى للدولة الإسلامية، فقد رأيناه يتعامل بالنقود المصورة من الأمم الأخرى والتى تجسد ملوك الروم والفرس وتحمل العديد من الرموز الدينية والوثنية بلا أدنى حرج، ورأيناه يأخذ نظام الدواوين من فارس وبه يرسم نظم الحكم فى بلاد الإسلام بلا أى حرج أيضا، كما لو كان يرد على من يدعون أن الديمقراطية كفر وأن اتخاذ الأمثلة الناجحة من الدول الأخرى ارتداد عن الدين، فهل كان عمر بن الخطاب كافرا هو يستعير تلك الأنظمة من بلاد الكفر، أم أن ما يقولونه فى حاجة إلى ضبط وإصلاح وتهذيب؟
هنا تجدر الإشارة إلى ابتعاد تلك الطائفة عن أصول الدين وعقائده، وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه لم يخل عصر من مثل هؤلاء، فقد رأينا كيف استشهد الإمام على على يد أحمق جاهل حسب أنه يتقرب إلى الله بقتل الإمام المكرم من فوق سبع سماوات، رأينا كيف قتل الإمام زيد بن على زين العابدين على يد الطاغية الأموى هشام بن عبدالملك، ورأينا كيف عذب الإمام أبو حنيفة وأوذى لثباته على الحق وحرصه على التجديد وتحدى الملك الذى كان يريد أن يتزوج خلاف زوجته فلم يرض بذلك، كما رأينا كيف سجن الإمام مالك لأنه قال رأيا، ورأينا كيف قتل الإمام الشافعى كما قال ياقوت الحموى فى معجم البلدان من الحمقى أتابع مالك لأنه خالف إمامهم، ورأينا كيف عذب الإمام أحمد وسجن فى محنة خلق القرآن وكيف تقولوا على الإمام ابن حزم وأحرقوا له كتبه، وكيف تطاولوا على الإمام أبوحامد الغزالى وكفروه وهو الذى أحيا علوم الدين، ورأينا كيف نفوا العز بن عبدالسلام وعذبوه وآذوه لأنه لم يسر مع السائرين، ورأينا كيف كفروا الطهطاوى الأفغانى وعبده وكيف تجرؤوا على الإمام محمود شلتوت والمراغى وعبد المتعال الصعيدى وكيف قتلوا عبدالرحمن الكواكبى بالسم دون رحمة وكيف تجرأ الجهال على الإمام محمد أبوزهرة بسب رأيه فى حد الرجم وكيف تجرؤوا أيضا على الباقورى لأنه اتبع التيسير والسماحة منهحا وكيف تسممت ألسنتهم واسودت قلوبهم فرمى أحد أكبر شيوخ الوهابية المنحلة الشيخ الشعرواى بالانحراف، وكأن قدر كل مصلح ومجدد أن يتم اتهامه بما ليس فيه، تأكيدا للقول «الناس أعداء ما جهلوا» فطبيعى أن يصير حملة العلم شوكة فى ظهر الجهال والمنافقين.
هنا لابد لنا من وقفة عند أمر فى غاية الأهمية، وهو أنه من الملاحظ أن الفقه الإسلامى مدرسته المصرية المتسامحة الرحبة أصبح عدوا بينا للوهابية ومرتزقيها، فما من عالم مصرى ملتزم مستنير إلا وستجده على صليبة مدفع الوهابيين، يكفرون الإمام محمد الغزالى ويتطاولون على الإمام شلتوت، بل وصل الأمر بأحد علماء الوهابية وهو المسمى بصالح الفوزان إلى رمى إمام الفقهاء الملقب بأفقه أهل الأرض «محمد أبوزهرة» بالجهل والحقد والتطفل على العلم وأخذ يبث سمومه فى مقالاته متطاولا على من شهد له جميع فقهاء عصره والعصور اللاحقة بالريادة فى العلم والفقه، كما وصل الأمر بأحد هؤلاء إلى أن يؤلف كتابا قال مؤلفه فى عنوانه أن يوسف القرضاوى «كلب عاوى» وما هذا العداء الواضح الذى يتخذ من أحقر الخصال منهجا إلا عداء لدور مصر الإسلامى السامق، وأعلامها الرواد وهو ما يجب أن ننتبه مدافعين عن أئمة التنوير ضد رؤوس الفتنة والتكفير، الذين يكيلون للإسلام اتهامات بشعة بدعوى الحفاظ عليه وما هم إلا يحافظون على سطوتهم وملكهم ونفوذهم وأموالهم.
شىء غاية فى الأهمية لاحظته أثناء إعدادى لهذه الحلقات وهو أنه كلما سار بنا الزمان أصبحنا أكثر تشددا وما تشددنا إلا لأننا منهزمون داخليا وخارجيا فالإنسان لا يكون فى أكثر حالاته عصبية وتشددا إلا حينما تحل به الهزيمة وينزل منه الضعف، ولعله من الواجب الآن أن ننزع عن أنفسها أقنعة المنهزمين وأن ننظر إلى ديننا بلا ريبة أو خشية، ويجب أيضا أن ننزع عنا التمذهب والتعصب وآفة عدم الخروج عن تعاليم المذهب الواحد التى يتشدد فيها البعض حتى يحسب الواحد أن كل مذهب دين جديد من يخرج عنه يكفر، كما يجب علينا أن ننظر بعين الفحص والمراجعة لما قال عنه الإمام محمود شلتوت «أحاديث الآحاد» التى قال إنه لا يصح أن نحكم بها أو أن نحتكم إليها فى أمور التشريع والعقيدة، كما يجب علينا أن ننظر إلى الطنطنة باسم الإجماع، لأنه معيار زمنى متغير، فما أجمع عليه الصحابة بعد وفاة الرسول غير ما أجمعوا عليه أيام الرسول، ولننظر مثلا إلى حد الخمر لنعرف كيف كان اجتهاد الصحابة نابعا فى الأساس من الواقع، فالرسول كان يضرب شارب الخمر أربعين ضربة بالنعال أو بالجريد، فالغرض الأساسى من العقوبة هو التشديد على الـتأثيم، لكن هذا الحد تغير بعد ذلك حتى جعله الإمام على ثمانين ضربة، وجعله عمر بن الخطاب بالسوط بدلا من الجريد أو النعال، وذلك لأنهم رأوا أن الظاهرة تفشت فى المجتمع حتى أن بعض الصحابة كانوا يعاقرون الخمر مثل قدامة بن مظعون الذى كان من أهل بدر وممن شهدوا الهجرتين، ولذلك كان التشديد بالمخالفة لظاهر السنة واجبا، لأن السنة الحقيقية هى فى العمل على تجريم شرب الخمر لبتر هذه الظاهرة من المجتمع أو تقليلها بصرف النظر عن طريقة معالجة هذا الأمر، وما يجوز فى التشديد يجوز أيضا فى التخفيف، ومن هناك يجب أن ندرس الآلية التى كان يفكر بها الصحابة والأئمة المجددون لا أن نتوقف عند نتيجة ما توصلوا إليه بهذه الآلية، وتمسكنا بظاهر النص وليس بحكمته، وحاولنا بقدر الإمكان أن نبطل عمل العقل فى الشريعة وأجهدنا عقولنا فى إثبات ذلك غير مدركين أن إعمال العقل فى إبطال العقل اعتراف ضمنى بأهمية أعمال العقل فى الدين وضرورته.
بقى أن نستعرض أهم ما أثارته هذه الحلقات من ردود أفعال وأهم ما واجهته من اعتراضات، والتى أظن أن مناقشتها واجبة عملا بمبدأ الرأى والرأى الآخر، خاصة أن حلقتى الإمام أحمد ابن حنبل والإمام محمد أبو زهرة قد نالتا قدرا كبيرا من الاهتمام والجدل لما فيهما من اشتباكات أرى أنها من الأهمية بمكان، لكن نظرا لضيق المساحة أؤجل الحديث فى هذا الأمر لوقت آخر لإعطاء الآراء المعارضة حقها فى العرض والمداولة، وفى هذا السياق أورد فى نهاية الصفحة بعض المراجع التى استعنت بها فى هذه الحلقات حتى يستزيد من أراد الاستزادة، ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، أتوجه فى هذا المقام بالشكر للزميل والصديق خالد صلاح على رعايته بهذه الحلقات واهتمامه بها وحماسه لها والعمل على وضعها فى المقام المناسب، كما يسعدنى أن أشكر أستاذى الغالى جمال العاصى وصديقى الناقد أحمد حسن والشاعر محمد طلبة والناقد حاتم حافظ على اهتمامهم البالغ بهذه الحلقات ومتابعتهم لها وتناولها بالنقد المستمر وعدم البخل بإسداء العون والنصيحة والاهتمام.
ولعل آخر ما أود أن أشير إليه هنا هى دعوة الإمام المراغى التى رأيت فيها قدرا كبيرا من الإيجاز والفعالية لم يرد أن يتبنى منهجا جديدا فى العمل على تجديد الفقه الإسلامى فقد قال الإمام: يجب أن يدرس الفقه الإسلامى دراسة خالية من التعصب لأى مذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام والمجمع عليها، والنظر فى الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف، وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء كما يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من العقائد والعبادات والأحكام بما هو موجود فى الدين الإسلامى، ليظهر للناس يسره وقوته وامتيازه عن غيره فى مواطن الاختلاف» كما دعا الإمام إلى وجوب دراسة كل فرقة إسلامية وظروف نشأتها والعوامل السياسية التى تحكمت فيها، بحيث يخرج الإسلام نقيا من حروب الفتنة والتقول على الدين بالزج فيه بما ليس فيه، بناء على رغبة سلطان أو زلل عالم، لكن للأسف ذهبت تلك الدعوة هباء ولم تجد من يتصدى لها بشكل جماعى ليتحصن من غوغائية العامة أو مزايدة المزايدين المدعين، وما أحوجنا الآن إلى جعل هذه الدعوة نبراسا للاهتداء بنور الإسلام ودفع الشبهات عنه ممن يحتكرون الحديث باسمه، وإنى لأنتهز هذه الفرصة الطيبة لأوجه الحديث إلى كل من وزارة الثقافة التى نسيت طوال عهود مضت ما للإسلام من دور كبير فى «الثقافة» وإلى الجامع الأزهر الذى غاب عن مكانه زمنا طويلا فاحتل مقعده شرار الناس وأرذلهم إلى تبنى دعوة الإمام المراغى بأن ننشئ جيلا من المحققين والفقهاء والدارسين لدقائق الفقه والتاريخ والأديان والمذاهب، وكم أتمنى من هذين الكيانين الكبيرين أن يعملا سويا من أجل إنشاء مركز إسلامى ثقافى حضارى كبير يخرج لنا أئمة مستنيرين يتخذون من المنهج العلمى سبيلا ومن القرآن والسنة هاديا ومن إرثنا كله مؤونة وذخيرة للعمل من أجل استكمال مدرسة الإمام محمد عبده والمراغى وشلتوت وأبو زهرة والباقورى والشعرواى ليظل الإسلام محتفظا بسنة التجديد التى طالب بها نبى الإسلام، ولكى لا يفرض علينا أحد رأيه القاصر أو فهمه المنغلق، ولا أتخيل أن يحمل هذا المركز الحلم سوى اسم الإمام محمد عبده الذى يدين له الجميع بالفضل، والذى يقدم لنا صيغة مكتملة للإسلام ومنهجه غير مبتورة عن سياقه ولا مقتطعة من تاريخه ولا منفصلة عن واقعه، الإسلام الحق الإسلام كما أنزل من عند الله وليس دينهم المبتور المشوه.
قائمة بأهم المراجع التى استعان بها الكاتب
القرآن الكريم
مسند الإمام أحمد بن حنبل
الدعوة إلى الإسلام - محمد أبوزهرة
ابن تيمية حياته وعصره وآراؤه وكتبه - محمد أبوزهرة
أصول الفقه - محمد أبوزهرة
أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام - الطاهر بن عاشور
الإمام أبوحنيفة - محمد أبوزهرة
الإمام أحمد بن حنبل - محمد أبوزهرة
الإمام الشافعى - محمد أبوزهرة
الإمام مالك - محمد أبوزهرة
الأئمة التسعة - عبدالرحمن الشرقاوى
الإمام زيد - محمد أبوزهرة
العقوبة - محمد أبوزهرة
المجتمع الإنسانى فى ظل الإسلام - محمد أبوزهرة
فقه الإمام أحمد بن حنبل - محمد أبوزهرة
محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية - محمد أبوزهرة
المجتهدون فى التشريع - محمد رجب بيومى
الاجتهاد - محمد مصطفى المراغى
الحرية الدينية فى الإسلام - عبدالمتعال الصعيدى
لماذا أنا مسلم - عبدالمتعال الصعيدى
محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية - محمد أبوزهرة
القضايا الكبرى فى الإسلام - عبدالمتعال الصعيدى
اشتراكية الإسلام - مصطفى السباعى
هكذا علمتنى الحياة - مصطفى السباعى
السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى - مصطفى السباعى
من روائع حضارتنا - مصطفى السباعى
ابن حزم الأندلسى - زكريا إبراهيم
ابن حزم الأندلسى «عصره تمركزه وفكره التربوى» - حسان محمد حسان
طاهرة بن حزم - أنور الزغبى
أبوحامد الغزالى.. المفكر الثائر - الصادق عرجون
الإمام الغزالى بين ناقديه ومادحيه - يوسف القرضاوى
الإمام الغزالى مجدد المائة الخامسة - صالح أحمد الشامى
الإمام الغزالى وعلاقة اليقين بالعقل - إبراهيم الفيومى
التربية والسياسة عند أبوحامد الغزالى - أحمد عرفات القاضى
صفوة إحياء الغزالى - محمود على قراعة
نظرات فى فكر الغزالى - عامر النجار
زعماء الإصلاح فى العصر الحديث - أحمد أمين
ثائر تحت العمامة - نعم الباز
الاجتهاد فى الإسلام - مصطفى المراغى
الزمالة الإنسانية - مصطفى المراغى
الشاطبى ومقاصد الشريعة - حمادى العبيدى
القواعد الإسلامية عند الشاطبى - الجناينى المرينى
نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبى - أحمد الريونى
مقاصد الشريعة - عبدالرحمن يوسف
الاعتصام - الشاطبى
العز بن عبدالسلام «حياته وآثاره ومنهجه فى التفسير» - إبراهيم الوهيبى
كتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز - العز بن عبدالسلام
الموردى وفكره السياسى - خلف الجراد
أدب الدين والدنيا - المواردى
الفكر السياسى عند المواردى - صالح عثمان
الأحكام السلفية - المواردى
القضاء والقدر - جمال الدين الأفغانى
جمال الدين الأفعانى - على شلش
جمال الدين الأفغانى وإشكاليات العصر - مجدى عبدالحافظ
منهج الأفغانى ودفاعه عن الإسلام - زاهد روسان
حسن العطار - محمد عبدالغنى
الجذور الإسلامية للرأسمالية - بيتر جران
الدولة والخلافة فى الخطاب العربى - رشيد رضا وعلى عبدالرازق
الفقه المقاصدى عند رشيد رضا - منوبه برهانى
رشيد رضا الإمام المجاهد - إبراهيم العدوى
رشيد رضا والخطاب الإسلامى المعتدل - سمير أبوحمدان
لماذا تأخر المسلمون - شكيب أرسلان
فتاوى رشيد رضا - صلاح الدين المنجد
حقوق النساء فى الإسلام - رشيد رضا
الإسلام والعقل - عبدالحليم محمود
دفاعا عن العقيدة والشريعة - محمد الغزالى
السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث - محمد الغزالى
التوحيد الأدبى للعبادات - عبدالمتعال الصعيدى
الخلافة الإسلامية فى عهد الخلفاء الراشدين - عبدالمتعال الصعيدى
محمد عبده رائد الفكر المصرى - عثمان أمين
عبقرى الإصلاح محمد عبده - عباس محمود العقاد
الإمام محمد عبده - محمد الجوادى
الأعمال الكاملة لمحمد عبده محمد عمارة
رفاعة الطهاوى رائد التنوير محمد عمارة
من توجيهات الإسلام محمود شلتوت
الفتاوى محمود شلتوت
الإسلام عقيدة وشريعة محمود شلتوت
المفكر الإسلامى مصطفى عبدالرازق عبدالفتاح المغربى
من آثار مصطفى عبدالرازق على عبدالرازق
مقدمة طه حسين
موسى بن ميمون - ترجمة مصطفى عبدالرازق
الفقهاء والخلافة فى العصر الأموى - حسين عطوان
الليث بن سعد - عبدالحليم محمود
النهضة الإسلامية فى سير أعلامها المعاصرين - رجب البيومى
تجديد الفقه الإسلامى - جمال عطية ووهبة الزحيلى
عبقرية الإمام - عباس محمود العقاد
عبقرية عمر - عباس محمود العقاد
تجديد الفكر الدينى - محمد إقبال
المدخل الفقهى العام - مصطفى الزرقا
الفقه الإسلامى ومدارسه - مصطفى الزرقا
عرفت الشعراوى - محمود جامع
مائة سؤال وجواب - محمد متولى الشعرواى وغيرهم
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى رحلتى مع الفقهاء عرفت أن الإسلام الذى ندين به غير الإسلام الذى يصدرونه لنا، وأيقنت أن هناك حربا حقيقية بين الوهابية المنغلقة والإسلام الرحب
لماذا لم يستخرج لنا العلماء منهجا من فقه الصحابة لنفكر مثلما فكروا لا أن نأخذ ما رأوه مناسبا فى عصرهم ولماذا نحرم أنفسنا من التجديد وهو سنة مؤكدة؟
دعوة إلى الأزهر ووزارة الثقافة إلى عمل مركز إسلامى مستنير باسم الإمام محمد عبده ليخرج لنا أئمة مجددين لا حفظة منغلقين
ذات يوم سألت نفسى: لماذا جعل الله الإسلام هو الدين الخاتم، ولماذا جعل الله نبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم تاج الأنبياء؟ وما أظن أن هذه الحلقات الثلاثين إلا إجابة عن هذا السؤال.
نعم، كانت هذه الحلقات التى توغلنا فيها فى عمق الفقه الإسلامى وفى تاريخ الإسلام ومذاهبه وأعلامه المجددين الصالحين الأبرار، إجابة عن هذا السؤال، فقد انفرد هذا الدين بخصائص لم تتيسر لغيره جعلته الدين الخاتم وجعلت من التطور سنة مؤكدة، ومن السؤال بداية للاجتهاد، ومن الاجتهاد آلية دائمة تضمن ضخ الدماء الجديدة فى أوردة الفقه الإسلامى فيتجدد شباب الإسلام بآراء الصالحين والأعلام، وسبحان من جعل اسم العلم الموكل إليه البت فى أمور المسلمين ومستجداتهم هو «الفقه» والفقه فى اللغة يعنى الفهم، ويقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «من يرد الله به خيرا يفقه فى الدين»، أى يفهمه أموره ودقائقه وتفاصيله وأحكامه، ولا يتيسر الفهم إلا بالعقل وإقامة الحجة والإتيان بالبرهان، فمن أبرز منجزات الإسلام أنه بلا كهنوت ولا وصاية، يخاطب العقل وحده فيزداد الواحد اقتناعا به، يخاطب أحرارا لا يفعلون إلا ما يعتقدون، ولا يقتنعون إلا بما يوافق المنطق ويسلم به العقل دون إجبار أو ترهيب أو تفزيع بما وراء العقل وما يجافى المنطق، وليس أدل على أن الإسلام بحاجة دائمة إلى من يتفقه فى أمره كل حين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، فسبحان من جعل تجديد الدين سنة من سننه، وسبحان من أخرس حجج المتنطعين الذين يريدون أن يغلقوا علينا عقولنا بحديث صحيح واضح المعنى جلى الألفاظ، يجزم بضرورة التجديد على أيدى رجال الفقه أو إن شئت قل رجال الفهم، لا رجال الحفظ والتلقين والانغلاق.
تلك سنة رسول الله التى كفلت لنا عدم التمزق بين الدين والحياة، ورفعت عنا الحرج فى الدنيا والآخرة، وهذا ما وعاه الصحابة الأجلاء ونفذوه، لكن يبدو أن هنالك من لا يريد أن يقتنع بتلك السنة، ومن لا يريد أن يتصالح الدين مع الدنيا ليبقى المسلمون منفصلين عن واقعهم شاعرين بأن كل ما يفعلونه فى دنياهم إثم أو ذنب، فيهرعون إلى كهنة الدين الجدد الذين يتسلطون على رقاب العباد ويتشددون فى أمور الدين حتى يثبتوا لمن يسألهم أنهم من دونهم عصاة مجرمون مذنبون، ولا يعدم الواحد منهم من ذكر بعض الآيات أو الأحاديث لتأييد وجهة نظره التى يقطعها من سياقها ويحذف عنها سبب نزولها ويفصلها عن غيرها من الآيات والأحاديث حتى يهيمن على أدمغة السائلين، ويوهمهم بأن نصوص الدين تأمرهم بفعل كذا أو كذا ويتناسى أن الله جل وعلا لم يقصد من شريعته إلا جلب الخير كله وإبعاد الشر كله، ولم يقصد بها أبدا أن يعذب عباده بها فى الدنيا والآخرة، ولك أن تقارن بين موقف الذين يدّعون أنهم يتحدثون باسم الله ولا ينطقون عن الهوى، وواحد مثل الإمام المراغى الذى أسهم بمجهوداته فى إعلاء كلمة الإسلام ورد الشبهات عنه وتطوير الأزهر وهو بيت الإسلام الأكبر حينما قال للجنة وضع القوانين فى عشرينيات القرن الماضى: ضعوا ما ترونه فى مصلحة المسلمين من قوانين ومواد وسآتى لكم من الشريعة بدليل على صحته، ولو كان هناك من يرى فى جملة المراغى تلك عيبا فليس هذا إلا لمرض فى نفسه، فما قال المراغى هذا وهو الذى صاح فى الملك فاروق قائلا إن المراغى لا حرم ما أحله الله إلا ليقينه من أن الله رحيم بعباده، ويقينه من أن الإسلام صالح فى كل زمان ومكان، وأن أعلامه المجددين اجتهدوا ليجعلوا الحياة فى ظل الإسلام «حياة» لا موات.
وما دمنا قد تطرقنا إلى الإمام المراغى فلا بد لنا من وقفة عند هذا الرجل العالم المعلم الذى أسهم بعلمه وتفقهه فى أن يستنهض الدين من ضيق الشروح والحواشى وحواشى الحواشى إلى الفضاء الأرحب، داعيا إلى أن يحفظ الفقهاء قوله تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» و«ما جعل عليكم فى الدين من حرج» قائلا: «يجب أن يسيطر هذان النصان سيطرة تامة على جميع أمور التشريع الإسلامى، فإذا ما وجدنا أن النصوص الخاصة ببعض الأمور يوقع فى الحرج أو يحدث الضرر فيجب أو تقف النصوص الخاصة عن عملها فى تلك المواطن، وأن يعمل بالنص العام القاطع الموجب لنفى الحرج» فلننظر إلى هذه الدعوة الكريمة التى أراد بها الإمام أن يطلق عنان الاجتهاد فى إطار شرعى من الدين الخاتم الذى لا يعادى عصرا ولا يقتل علما ولا يقوض حلما.
ما أحوجنا الآن إلى التشبث بالقيم التى زرعها فقهاء التنوير الذين تناولناهم فى الحلقات الثلاثين فى جسد حضارتنا الإسلامية، ما أحوجنا الآن إلى كل هؤلاء مجتمعين فى واحد أو فى مؤسسة أو فريق، وللحق فقد زادتنى هذه الحلقات خبرة وعلما، فأنا لا أدعى أنى عالم فقه أو خبير تاريخ أو مرجع أو حجة فى شىء من هذا، وما أنا إلا تلميذ طلبت العلم فوجدته متحققا فى هؤلاء، وللحق أيضا فقد حرمتنى محدودية أيام رمضان التى شهدت هذه الحلقات فحصرتها فى ثلاثين حلقة فقط من أن أتناول أعلاما لا يقلون أهمية وتجديدا من هؤلاء الذين ذكرتهم، فرغما عنى والتزاما بالحلقات الثلاثين اضطررت إلى استبعاد الكثير من الأسماء مثل الصحابى ابن مسعود، الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام الشوكانى، والإمام الجوينى، والعالم محمد البهى، والفقيه مصطفى الزرقا، والشيخ يوسف القرضاوى، والمجدد معروف الدواليبى، والإمام عبدالحليم محمود، والإمام محمد الغزالى، وغيرهم كثير من رموز حضارتنا مجددو إسلامنا، ولقد لاحظت من واقع خبرتى المحدودة أثناء العمل على إنجاز هذه الحلقات افتقارنا إلى الدراسات الفقهية الجادة، ولاحظت أيضا أننا واقعون ما بين فقه مضى وهو كثير ولكن بحاجة إلى مراجعة وتجديد، وفقه محدث وهو قليل جدا ويكاد ينحصر فى بعض الأسماء التى تعد على أصابع اليدين، فما أشقانا ونحن نتحدث عن الشريعة الإسلامية ليل نهار أن يكون هذا هو حالنا وحال فقهنا.
من الملاحظات أيضا أننى وجدت تجاهلا لا أعرف سببه لما يمكن أن نطلق عليه «فقه الصحابة» وأعتقد أنه من الواجب الآن أن ندرس بشىء من التفصيل الفقه العمرى «نسبة لعمر بن الخطاب، والفقه العلوى «نسبة لعلى بن أبى طالب» والفقه المسعودى «نسبة لعبدالله بن مسعود» والفقه العثمانى «نسبة لعثمان بن عفان»، لنعرف كيف كان هؤلاء العظماء يفكرون فى ما استجد من أمور، على أن ينصب اهتمامنا إلى الكيفية التى كانوا يفكرون بها والآلية التى كانوا ينتهجونها ليستخرجوا الأحكام، وهى الدعوة التى أشار إليها من بعيد الإمام محمد أبو زهرة فى مقدمة كتابه «محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية» حيث قال إنه من الصحابة من اشتهر بالرأى والقياس مثل عبدالله بن مسعود، وعلى بن أبى طالب مع أخذهما أحيانا بالمصلحة، ومنهم من أفتى بالمصلحة ذاتها مثل عمر بن الخطاب بل كان يقول لأبى موسى الأشعرى «الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدر مما ليس فى كتاب أو سنة، اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك» هذا فى شؤون الشرع أمام فى شؤون الدنيا لدراسة فقهه أهمية بالغة وهو المؤسس الفعلى للدولة الإسلامية، فقد رأيناه يتعامل بالنقود المصورة من الأمم الأخرى والتى تجسد ملوك الروم والفرس وتحمل العديد من الرموز الدينية والوثنية بلا أدنى حرج، ورأيناه يأخذ نظام الدواوين من فارس وبه يرسم نظم الحكم فى بلاد الإسلام بلا أى حرج أيضا، كما لو كان يرد على من يدعون أن الديمقراطية كفر وأن اتخاذ الأمثلة الناجحة من الدول الأخرى ارتداد عن الدين، فهل كان عمر بن الخطاب كافرا هو يستعير تلك الأنظمة من بلاد الكفر، أم أن ما يقولونه فى حاجة إلى ضبط وإصلاح وتهذيب؟
هنا تجدر الإشارة إلى ابتعاد تلك الطائفة عن أصول الدين وعقائده، وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه لم يخل عصر من مثل هؤلاء، فقد رأينا كيف استشهد الإمام على على يد أحمق جاهل حسب أنه يتقرب إلى الله بقتل الإمام المكرم من فوق سبع سماوات، رأينا كيف قتل الإمام زيد بن على زين العابدين على يد الطاغية الأموى هشام بن عبدالملك، ورأينا كيف عذب الإمام أبو حنيفة وأوذى لثباته على الحق وحرصه على التجديد وتحدى الملك الذى كان يريد أن يتزوج خلاف زوجته فلم يرض بذلك، كما رأينا كيف سجن الإمام مالك لأنه قال رأيا، ورأينا كيف قتل الإمام الشافعى كما قال ياقوت الحموى فى معجم البلدان من الحمقى أتابع مالك لأنه خالف إمامهم، ورأينا كيف عذب الإمام أحمد وسجن فى محنة خلق القرآن وكيف تقولوا على الإمام ابن حزم وأحرقوا له كتبه، وكيف تطاولوا على الإمام أبوحامد الغزالى وكفروه وهو الذى أحيا علوم الدين، ورأينا كيف نفوا العز بن عبدالسلام وعذبوه وآذوه لأنه لم يسر مع السائرين، ورأينا كيف كفروا الطهطاوى الأفغانى وعبده وكيف تجرؤوا على الإمام محمود شلتوت والمراغى وعبد المتعال الصعيدى وكيف قتلوا عبدالرحمن الكواكبى بالسم دون رحمة وكيف تجرأ الجهال على الإمام محمد أبوزهرة بسب رأيه فى حد الرجم وكيف تجرؤوا أيضا على الباقورى لأنه اتبع التيسير والسماحة منهحا وكيف تسممت ألسنتهم واسودت قلوبهم فرمى أحد أكبر شيوخ الوهابية المنحلة الشيخ الشعرواى بالانحراف، وكأن قدر كل مصلح ومجدد أن يتم اتهامه بما ليس فيه، تأكيدا للقول «الناس أعداء ما جهلوا» فطبيعى أن يصير حملة العلم شوكة فى ظهر الجهال والمنافقين.
هنا لابد لنا من وقفة عند أمر فى غاية الأهمية، وهو أنه من الملاحظ أن الفقه الإسلامى مدرسته المصرية المتسامحة الرحبة أصبح عدوا بينا للوهابية ومرتزقيها، فما من عالم مصرى ملتزم مستنير إلا وستجده على صليبة مدفع الوهابيين، يكفرون الإمام محمد الغزالى ويتطاولون على الإمام شلتوت، بل وصل الأمر بأحد علماء الوهابية وهو المسمى بصالح الفوزان إلى رمى إمام الفقهاء الملقب بأفقه أهل الأرض «محمد أبوزهرة» بالجهل والحقد والتطفل على العلم وأخذ يبث سمومه فى مقالاته متطاولا على من شهد له جميع فقهاء عصره والعصور اللاحقة بالريادة فى العلم والفقه، كما وصل الأمر بأحد هؤلاء إلى أن يؤلف كتابا قال مؤلفه فى عنوانه أن يوسف القرضاوى «كلب عاوى» وما هذا العداء الواضح الذى يتخذ من أحقر الخصال منهجا إلا عداء لدور مصر الإسلامى السامق، وأعلامها الرواد وهو ما يجب أن ننتبه مدافعين عن أئمة التنوير ضد رؤوس الفتنة والتكفير، الذين يكيلون للإسلام اتهامات بشعة بدعوى الحفاظ عليه وما هم إلا يحافظون على سطوتهم وملكهم ونفوذهم وأموالهم.
شىء غاية فى الأهمية لاحظته أثناء إعدادى لهذه الحلقات وهو أنه كلما سار بنا الزمان أصبحنا أكثر تشددا وما تشددنا إلا لأننا منهزمون داخليا وخارجيا فالإنسان لا يكون فى أكثر حالاته عصبية وتشددا إلا حينما تحل به الهزيمة وينزل منه الضعف، ولعله من الواجب الآن أن ننزع عن أنفسها أقنعة المنهزمين وأن ننظر إلى ديننا بلا ريبة أو خشية، ويجب أيضا أن ننزع عنا التمذهب والتعصب وآفة عدم الخروج عن تعاليم المذهب الواحد التى يتشدد فيها البعض حتى يحسب الواحد أن كل مذهب دين جديد من يخرج عنه يكفر، كما يجب علينا أن ننظر بعين الفحص والمراجعة لما قال عنه الإمام محمود شلتوت «أحاديث الآحاد» التى قال إنه لا يصح أن نحكم بها أو أن نحتكم إليها فى أمور التشريع والعقيدة، كما يجب علينا أن ننظر إلى الطنطنة باسم الإجماع، لأنه معيار زمنى متغير، فما أجمع عليه الصحابة بعد وفاة الرسول غير ما أجمعوا عليه أيام الرسول، ولننظر مثلا إلى حد الخمر لنعرف كيف كان اجتهاد الصحابة نابعا فى الأساس من الواقع، فالرسول كان يضرب شارب الخمر أربعين ضربة بالنعال أو بالجريد، فالغرض الأساسى من العقوبة هو التشديد على الـتأثيم، لكن هذا الحد تغير بعد ذلك حتى جعله الإمام على ثمانين ضربة، وجعله عمر بن الخطاب بالسوط بدلا من الجريد أو النعال، وذلك لأنهم رأوا أن الظاهرة تفشت فى المجتمع حتى أن بعض الصحابة كانوا يعاقرون الخمر مثل قدامة بن مظعون الذى كان من أهل بدر وممن شهدوا الهجرتين، ولذلك كان التشديد بالمخالفة لظاهر السنة واجبا، لأن السنة الحقيقية هى فى العمل على تجريم شرب الخمر لبتر هذه الظاهرة من المجتمع أو تقليلها بصرف النظر عن طريقة معالجة هذا الأمر، وما يجوز فى التشديد يجوز أيضا فى التخفيف، ومن هناك يجب أن ندرس الآلية التى كان يفكر بها الصحابة والأئمة المجددون لا أن نتوقف عند نتيجة ما توصلوا إليه بهذه الآلية، وتمسكنا بظاهر النص وليس بحكمته، وحاولنا بقدر الإمكان أن نبطل عمل العقل فى الشريعة وأجهدنا عقولنا فى إثبات ذلك غير مدركين أن إعمال العقل فى إبطال العقل اعتراف ضمنى بأهمية أعمال العقل فى الدين وضرورته.
بقى أن نستعرض أهم ما أثارته هذه الحلقات من ردود أفعال وأهم ما واجهته من اعتراضات، والتى أظن أن مناقشتها واجبة عملا بمبدأ الرأى والرأى الآخر، خاصة أن حلقتى الإمام أحمد ابن حنبل والإمام محمد أبو زهرة قد نالتا قدرا كبيرا من الاهتمام والجدل لما فيهما من اشتباكات أرى أنها من الأهمية بمكان، لكن نظرا لضيق المساحة أؤجل الحديث فى هذا الأمر لوقت آخر لإعطاء الآراء المعارضة حقها فى العرض والمداولة، وفى هذا السياق أورد فى نهاية الصفحة بعض المراجع التى استعنت بها فى هذه الحلقات حتى يستزيد من أراد الاستزادة، ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، أتوجه فى هذا المقام بالشكر للزميل والصديق خالد صلاح على رعايته بهذه الحلقات واهتمامه بها وحماسه لها والعمل على وضعها فى المقام المناسب، كما يسعدنى أن أشكر أستاذى الغالى جمال العاصى وصديقى الناقد أحمد حسن والشاعر محمد طلبة والناقد حاتم حافظ على اهتمامهم البالغ بهذه الحلقات ومتابعتهم لها وتناولها بالنقد المستمر وعدم البخل بإسداء العون والنصيحة والاهتمام.
ولعل آخر ما أود أن أشير إليه هنا هى دعوة الإمام المراغى التى رأيت فيها قدرا كبيرا من الإيجاز والفعالية لم يرد أن يتبنى منهجا جديدا فى العمل على تجديد الفقه الإسلامى فقد قال الإمام: يجب أن يدرس الفقه الإسلامى دراسة خالية من التعصب لأى مذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام والمجمع عليها، والنظر فى الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف، وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء كما يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من العقائد والعبادات والأحكام بما هو موجود فى الدين الإسلامى، ليظهر للناس يسره وقوته وامتيازه عن غيره فى مواطن الاختلاف» كما دعا الإمام إلى وجوب دراسة كل فرقة إسلامية وظروف نشأتها والعوامل السياسية التى تحكمت فيها، بحيث يخرج الإسلام نقيا من حروب الفتنة والتقول على الدين بالزج فيه بما ليس فيه، بناء على رغبة سلطان أو زلل عالم، لكن للأسف ذهبت تلك الدعوة هباء ولم تجد من يتصدى لها بشكل جماعى ليتحصن من غوغائية العامة أو مزايدة المزايدين المدعين، وما أحوجنا الآن إلى جعل هذه الدعوة نبراسا للاهتداء بنور الإسلام ودفع الشبهات عنه ممن يحتكرون الحديث باسمه، وإنى لأنتهز هذه الفرصة الطيبة لأوجه الحديث إلى كل من وزارة الثقافة التى نسيت طوال عهود مضت ما للإسلام من دور كبير فى «الثقافة» وإلى الجامع الأزهر الذى غاب عن مكانه زمنا طويلا فاحتل مقعده شرار الناس وأرذلهم إلى تبنى دعوة الإمام المراغى بأن ننشئ جيلا من المحققين والفقهاء والدارسين لدقائق الفقه والتاريخ والأديان والمذاهب، وكم أتمنى من هذين الكيانين الكبيرين أن يعملا سويا من أجل إنشاء مركز إسلامى ثقافى حضارى كبير يخرج لنا أئمة مستنيرين يتخذون من المنهج العلمى سبيلا ومن القرآن والسنة هاديا ومن إرثنا كله مؤونة وذخيرة للعمل من أجل استكمال مدرسة الإمام محمد عبده والمراغى وشلتوت وأبو زهرة والباقورى والشعرواى ليظل الإسلام محتفظا بسنة التجديد التى طالب بها نبى الإسلام، ولكى لا يفرض علينا أحد رأيه القاصر أو فهمه المنغلق، ولا أتخيل أن يحمل هذا المركز الحلم سوى اسم الإمام محمد عبده الذى يدين له الجميع بالفضل، والذى يقدم لنا صيغة مكتملة للإسلام ومنهجه غير مبتورة عن سياقه ولا مقتطعة من تاريخه ولا منفصلة عن واقعه، الإسلام الحق الإسلام كما أنزل من عند الله وليس دينهم المبتور المشوه.
قائمة بأهم المراجع التى استعان بها الكاتب
القرآن الكريم
مسند الإمام أحمد بن حنبل
الدعوة إلى الإسلام - محمد أبوزهرة
ابن تيمية حياته وعصره وآراؤه وكتبه - محمد أبوزهرة
أصول الفقه - محمد أبوزهرة
أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام - الطاهر بن عاشور
الإمام أبوحنيفة - محمد أبوزهرة
الإمام أحمد بن حنبل - محمد أبوزهرة
الإمام الشافعى - محمد أبوزهرة
الإمام مالك - محمد أبوزهرة
الأئمة التسعة - عبدالرحمن الشرقاوى
الإمام زيد - محمد أبوزهرة
العقوبة - محمد أبوزهرة
المجتمع الإنسانى فى ظل الإسلام - محمد أبوزهرة
فقه الإمام أحمد بن حنبل - محمد أبوزهرة
محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية - محمد أبوزهرة
المجتهدون فى التشريع - محمد رجب بيومى
الاجتهاد - محمد مصطفى المراغى
الحرية الدينية فى الإسلام - عبدالمتعال الصعيدى
لماذا أنا مسلم - عبدالمتعال الصعيدى
محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية - محمد أبوزهرة
القضايا الكبرى فى الإسلام - عبدالمتعال الصعيدى
اشتراكية الإسلام - مصطفى السباعى
هكذا علمتنى الحياة - مصطفى السباعى
السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى - مصطفى السباعى
من روائع حضارتنا - مصطفى السباعى
ابن حزم الأندلسى - زكريا إبراهيم
ابن حزم الأندلسى «عصره تمركزه وفكره التربوى» - حسان محمد حسان
طاهرة بن حزم - أنور الزغبى
أبوحامد الغزالى.. المفكر الثائر - الصادق عرجون
الإمام الغزالى بين ناقديه ومادحيه - يوسف القرضاوى
الإمام الغزالى مجدد المائة الخامسة - صالح أحمد الشامى
الإمام الغزالى وعلاقة اليقين بالعقل - إبراهيم الفيومى
التربية والسياسة عند أبوحامد الغزالى - أحمد عرفات القاضى
صفوة إحياء الغزالى - محمود على قراعة
نظرات فى فكر الغزالى - عامر النجار
زعماء الإصلاح فى العصر الحديث - أحمد أمين
ثائر تحت العمامة - نعم الباز
الاجتهاد فى الإسلام - مصطفى المراغى
الزمالة الإنسانية - مصطفى المراغى
الشاطبى ومقاصد الشريعة - حمادى العبيدى
القواعد الإسلامية عند الشاطبى - الجناينى المرينى
نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبى - أحمد الريونى
مقاصد الشريعة - عبدالرحمن يوسف
الاعتصام - الشاطبى
العز بن عبدالسلام «حياته وآثاره ومنهجه فى التفسير» - إبراهيم الوهيبى
كتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز - العز بن عبدالسلام
الموردى وفكره السياسى - خلف الجراد
أدب الدين والدنيا - المواردى
الفكر السياسى عند المواردى - صالح عثمان
الأحكام السلفية - المواردى
القضاء والقدر - جمال الدين الأفغانى
جمال الدين الأفعانى - على شلش
جمال الدين الأفغانى وإشكاليات العصر - مجدى عبدالحافظ
منهج الأفغانى ودفاعه عن الإسلام - زاهد روسان
حسن العطار - محمد عبدالغنى
الجذور الإسلامية للرأسمالية - بيتر جران
الدولة والخلافة فى الخطاب العربى - رشيد رضا وعلى عبدالرازق
الفقه المقاصدى عند رشيد رضا - منوبه برهانى
رشيد رضا الإمام المجاهد - إبراهيم العدوى
رشيد رضا والخطاب الإسلامى المعتدل - سمير أبوحمدان
لماذا تأخر المسلمون - شكيب أرسلان
فتاوى رشيد رضا - صلاح الدين المنجد
حقوق النساء فى الإسلام - رشيد رضا
الإسلام والعقل - عبدالحليم محمود
دفاعا عن العقيدة والشريعة - محمد الغزالى
السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث - محمد الغزالى
التوحيد الأدبى للعبادات - عبدالمتعال الصعيدى
الخلافة الإسلامية فى عهد الخلفاء الراشدين - عبدالمتعال الصعيدى
محمد عبده رائد الفكر المصرى - عثمان أمين
عبقرى الإصلاح محمد عبده - عباس محمود العقاد
الإمام محمد عبده - محمد الجوادى
الأعمال الكاملة لمحمد عبده محمد عمارة
رفاعة الطهاوى رائد التنوير محمد عمارة
من توجيهات الإسلام محمود شلتوت
الفتاوى محمود شلتوت
الإسلام عقيدة وشريعة محمود شلتوت
المفكر الإسلامى مصطفى عبدالرازق عبدالفتاح المغربى
من آثار مصطفى عبدالرازق على عبدالرازق
مقدمة طه حسين
موسى بن ميمون - ترجمة مصطفى عبدالرازق
الفقهاء والخلافة فى العصر الأموى - حسين عطوان
الليث بن سعد - عبدالحليم محمود
النهضة الإسلامية فى سير أعلامها المعاصرين - رجب البيومى
تجديد الفقه الإسلامى - جمال عطية ووهبة الزحيلى
عبقرية الإمام - عباس محمود العقاد
عبقرية عمر - عباس محمود العقاد
تجديد الفكر الدينى - محمد إقبال
المدخل الفقهى العام - مصطفى الزرقا
الفقه الإسلامى ومدارسه - مصطفى الزرقا
عرفت الشعراوى - محمود جامع
مائة سؤال وجواب - محمد متولى الشعرواى وغيرهم
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة