منظر جثة الشاب "حمادة زقزوق" وهو ممدد على بطنه على الأرض وتشتعل فيه النيران لا يتحمله أصحاب القلوب الضعيفة ولا القوية، وربما لا ترى مثله فى أفلام الرعب، ومجموعة من البشر يتراقصون حول الجثة ويصيحون كالذئاب المسعورة "اقتلوه .. ولعوه"، فيضرب أحد الشباب البقايا التى أكلتها النيران بسيف صدأ فى يده وكأنه يقلب حطباً فى فرن بلدى، وأحضر آخر إطار سيارة مشتعل ورماه فوق الجثة، وأمسك الباقين بالموبيلات فى أيديهم يصورون هذا المشهد الهمجى الرهيب!
الفيديو موجود على الفيس بوك، وتم تصويره فى طريق قرية الرطمة بدمياط التى ارتكب بعض أبنائها تلك الجريمة.. وتضيع الحقيقة كالعادة فى مثل هذه الجرائم:
فلو كان القتيل مجرما وبلطجيا وسفاحا وساقه قدره إلى هذا المكان - كما يقول بعض الأهالى - ما كان ينبغى تنفيذ حكم الإعدام فيه، بل القبض عليه وتسليمه للشرطة، حتى لا تترسخ شريعة الغاب والأخذ بالثأر، ولن تفرق هذه الدائرة الجهنمية بين مذنب وبرىء، ولكنها تطحن عظام المسالمين والضعفاء، وتجعلهم لقمة سائغة فى فم الغوغائية والبلطجة والأقوياء.
ولو كان القتيل هو الذى بادر بإطلاق الرصاص على الأهالى الذين التفوا حوله، وقتل أحدهم وأصاب آخرون فقتلوه دفاعا عن النفس كما يزعمون، ما كان ينبغى أبداً حرقه والتمثيل بجثته وتصويره بالموبايلات وكأنها حفلة شواء، دون اعتبار لانتهاك حرمة الموت بتشف ووحشية، والاستمتاع بشهوة القتل والتمثيل بالجثة، ولا أدرى من أين جاءت هذه القسوة المفرطة للمصريين الذين كانوا يتباهون بأنهم شعب طيب ويكره العنف والدماء.
ولو كان "زقزوق" متهما فى قضايا إجرامية ومسجل خطر وسيئ الخلق والسمعة والسلوك، فلماذا خرج عشرات الآلاف من أبناء قريته "الشيخ ضرغام"، يشيعوه إلى مثواة الأخير وهم يبكون بحرقة، فى مشهد مهيب يشبه جنازات العظماء وآولياء الله الصالحين وموجود أيضا فى فيديو آخر على الإنترنت، وبعضهم يؤكد أنه "رجل فى زمن الرجال فيه قليل"، وإنه كان يتصدى لانتهاكات الشرطة، وسبق له أن أنقذ امرأة قبل أن يغتصبها شابان وحكايات أخرى كثيرة ومثيرة.
أغرب ما فى هذه القصة المؤسفة أنها تكشف النقاب عن ظاهرتين، الأولى هى كثرة حوادث القتل خارج نطاق القانون منذ قيام الثورة، والغريب أن معظم تعليقات المواقع الإلكترونية تشجع هذا الأسلوب للتعامل مع البلطجية، وتبرره بضعف الشرطة وعدم مقدرتها على تحقيق الأمن، فيضطر الناس إلى أن يأخذوا حقهم بأيديهم، ولكن لم يسأل أحد نفسه أليس ممكنا أن يدفع شخص برئ حياته ثمنا لوشاية أو شبهة أو مكيدة دون أن تترك الغوغائية فرصة للتحقق من براءته؟.
أما الظاهرة الثانية فهى الاستمتاع بالتمثيل بالجثث ومحافظة الشرقية - مثلا - شهدث ستة حوادث بشعة من هذا النوع منذ قيام الثورة، آخرها منذ يومين عندما قتل أهالى قرية "بندف" أربعة أشخاص اتهموهم بأنهم لصوص سيارات، وسحلوا جثثهم بسيارة نصف نقل فى شوارع القرية وسط الزغاريد والتكبير، حتى تشوهت معالمهم تماما، فأصبح ذبح الخراف أكثر آدمية من سلخ البشر دون وازع من دين أو ضمير، أو على حد تعبير أحد الأهالى "لقد تأثرنا بحرق المسلمين فى بورما، أهى بورما بقت عندنا".
أما الشىء الأخطر فهو ضياع سلطة الدولة وهيبة القانون، وسيادة ثقافة البلطجة والهمجية والفتونة والثأر والتشفى والانتقام، فلماذا اللجوء إلى الشرطة والذهاب إلى المحاكم والنيابات، إذا كان متاحاً إصدار الأحكام فورا وتنفيذها على قارعة الطريق، وكيف يتم تحديد المتهم أصلا إذا كان الجناة عشرين أو مائة أو قرية خرج نصف سكانها لسحل بلطجى أوبعض اللصوص وتقطيع جثثهم وتعليقها على أعمدة الإنارة كما حدث فى الشرقية؟.
والأخطر هو أن تأخذ تلك الجرائم البشعة مسحة دينية بعد ترويج عقوبة "حد الحرابة" بين البسطاء، فيعتقد القتلة أنهم ينفذون شريعة الله ويقيمون عدله دون أن يقول لهم شيوخ التشدد أن دم المسلم حرام وماله وعرضه حرام، وأن الذى ينفذ القانون ويقيم العدالة هو الدولة والقضاء، وليس المتسكعون على قارعة الطريق، وأن الناس لا يؤُخذون بالشبهات والاتهامات المرسلة بل بالأدلة القاطعة والتحقيقلت العادلة، حتى لا يُقتل بريئا أو يُسحل مظلوم أو تُقطع الرقاب بالوشاية الكاذبة.