كما توقعنا بدت ردود الفعل على الفيلم المسىء للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام، صراخا وهوسا وغضبا يفتقد للعقل، والإسلام لايحتاج إلى محامين بل إلى مؤمنين بدين إنسانى يسعى لفهم البشر ويقدر ضعفهم وقوتهم.
لا نزايد على مشاعر من خرجوا غاضبين، لكن بعضهم لا يغادر الهوس، ويقدم لصناع الفيلم التافه دعاية، برفع لافتات وشعارات تسىء أكثر مما تدافع، مثل أصحاب الفتاوى والخطابات الفارغة الذين يسيئون للعقائد.
وبهذه المناسبة لا نجد مثالا للفرق بين الإيمان والتعصب، أكثر من الفيلسوف الفرنسى الراحل روجيه جارودى، الذى اعتنق الإسلام فى الثمانينيات، لكنه واجه محاولات تشكيك من كل فئة تريد أن تضعه فى قالبها، وهو القادم من آفاق الحرية والفلسفة الواسعة. رفض جارودى القوالب وظل مؤمنا بحضارة الإسلام وأقام مركزا خدم الإسلام أفضل مما فعل أنصار الإيمان المظهرى.
ولد جارودى فى فرنسا، وتنقل بين البروتستانتية والكاثوليكية، ودرس الفلسفة، واعتنق الفكر الشيوعى، لكنه وجه انتقادات إلى الأنظمة الشيوعية، والاتحاد السوفيتى بسبب قمع الحريات، ولهذا تم طرده من الحزب الشيوعى الفرنسى سنة 1970، أسس مركز الدراسات والبحوث الماركسية، وأصدر كتابه «ماركسية القرن العشرين»، قدم فيه تصورا جديدا للاشتراكية من خلال تجارب كفاح الشعوب الضعيفة ضد الاستعمار وربط بين العدالة والحرية، قبلها كان قد انضم إلى الحوار المسيحى - الشيوعى فى الستينيات، وحاول الجمع بين الكاثوليكية والشيوعية، وبدأ فى دراسة موسعة للإسلام.
وفى يوليو 1982 أشهر جارودى إسلامه، وأصدر كتب «وعود الإسلام» و«الإسلام يسكن مستقبلنا»، سطع نجمه، لكنه ظل عصيا على الاحتواء، وسعت بعض الاتجاهات الإسلامية أن تستقطبه، لكنه ظل يعبر عن أفكاره التى يؤمن فيها بالإسلام من دون أن يتخلى عن العدالة الاجتماعية والأفكار الاشتراكية التى رأى أنها من جوهر الإيمان، الأمر الذى أثار غضب الكثير من أصحاب النظرة المغلقة، ممن سعوا لقولبته فى أفكار ضيقة، وهو الذى خاض فى الأفكار الماركسية والوجودية والمسيحية، انتقد بشدة تيارات الفكر المتشدد ومحاولات انتزاع العقل من الإيمان أو التوقف عند ربط الإسلام بالختان، ولهذا خرج من يتهمه أنه لم يتخل باعتناقه الإسلام عن جوهر المسيحية والماركسية.
رفض جارودى محاولات القذافى توظيف جارودى ضمن مشروع لنشر الإسلام فى أوروبا، بالرغم من الإغراءات المالية الضخمة، وفضل أن يقدم حضارة الإسلام، واختلف مع أصحاب فتاوى الحيض والنفاس والختان، وكفره بعض المنسوبين للعلماء لأنهم عجزوا عن فهم بعض المقولات الفلسفية والصوفية. اضطر جارودى لمقاطعة كل هذا، وانسحب بتجربته ونظرياته إلى مدينة قرطبة الإسبانية، وأنشأ متحفاً يؤرخ للتراث الأندلسى وتجربة التعايش النادرة بين أتباع الديانات السماوية فى الأندلس.
قدم جارودى للإسلام أكثر مما قدمه المدعون والصارخون، ورحل فى يونيو الماضى، وترك تجربة ماتزال تنبض بالحياة والإيمان الأكثر صلابة، لأنه نتاج رحلة حقيقية فى المعرفة وليست مجرد حناجر.. فلنتعلم من جارودى وأفكاره وتجربته.