لا أعرف لماذا تذكرت المناضل العظيم فتحى رضوان وأنا أستعد للكتابة عن المستشار هشام جنينة بمناسبة تعيينه رئيسا للجهاز المركزى للمحاسبات؟، ربما لأنى فرغت مؤخرا من قراءة كتابه العمدة «عصر ورجال» بجزأيه، والذى أرخ فيه بطريقة مبتكرة لتاريخ مصر ونخبتها بين الثورتين «19و 1952»، وربما لأن الرجلين يحملان بداخلهما نقاء، نفتقده، وأوشك أن يختفى فى غمرة الأكاذيب التى تحوط المشهد فى الشهور الأخيرة، ولكن المؤكد أن شيئا كبيرا يربط بين رجلى القانون اللذين عبرا عن انحيازهما لثوابت الوطنية المصرية، رضوان بتاريخه الناصع وكتاباته الفريدة التى جمعت بين الأدب والسياسة والمحاماة والجمال والرقة والحنو والجسارة، تلميذ مصطفى كامل النجيب «والذى دفن إلى جواره فى المقبرة ينام جنبه فيها محمد فريد فى فبراير 1988 فى مشهد لن أنساه ما حييت»، رضوان الذى كان يؤمن بأن الوطن فوق الجميع، وأن الاستقلال الوطنى لن يتحقق إلا بعد الاستقلال الاقتصادى، والذى بدأ مسيرته النضالية وهو فى الثانية والعشرين بعد تخرجه فى مدرسة الحقوق، حيث أسس مع أحمد حسين مصر الفتاة، وتركها بعد ذلك وأسس الحزب الوطنى الجديد، وأطلق اللواء الحديثة، واعتقل أكثر من مرة، آخرها فى العهد الملكى عقب حريق القاهرة، وخرج بعد الثورة وعمل مع عبدالناصر مؤسسا لوزارة الثقافة والإرشاد القومى، وخرج منها بعد كتابه 72 شهرا مع عبدالناصر الذى انتقد فيه المحسوبية، كانت الوزارة بالنسبة له جهادا جديدا، لم يعمل لحساب أحد، أفنى حياته فى الدفاع عن حريات المصريين، وكان يعتبر أن احترام الكرامة الإنسانية من الأمور اللصيقة بالإنسان، لا يجوز النيل منها، وسجن بالطبع فى عهد السادت مع رموز مصر فى سبتمبر، رضوان الذى يعد أقرب رموز الماضى لثورة يناير التى اندلعت فى مئويته، والذى يرمز الى شىء نبيل وراق فى الوطنية المصرية، وفى أواخر أيامه كان من القلائل الذين تصدوا مبكرا للديكتاتور الجديد حسنى مبارك، من خلال مقالاته الحريفة فى جريدة الشعب فى أجمل فتراتها قبل تحولها، وكانت نبرته مختلفة عن كل الأساتذة الذين يعارضون من بعيد لبعيد، أما المستشار هشام جنينة الذى قاد مع تيار استقلال القضاء «رغم تحفظى مثله على التسمية» واحدة من أشرف قضايا الحريات، والتى لا تخص القضاة وحدهم، وكان داعما للقوى المطالبة بالتغيير، وعدم التمديد، ورفض التوريث، وفضحت انتهاكات انتخابات 2005، والذى يؤمن بأن القانون لا يفرق بين دينى وغير دينى، وأن مبارك وأعوانه يحتاجون إلى محاكمات سياسية، هو الرجل الذى سعدت باختياره رئيسا للجهاز المركزى للمحاسبات، وربما كان هذا القرار هو الوحيد الذى أثلج صدرى وصدر عن الرئيس، رغم أننى كنت - وما زلت - مع أعضاء حركة رقابيون ضد الفساد من أبناء الجهاز، الذين طالبوا بواحد منهم، وسعدت بترحيبهم به على موقعهم احتراما لتاريخه القصير الغنى، وهذه الحركة تصدت لجهابذة الحرية والعدالة، والذين كانوا يخططون لنقل تبعية الجهاز للبرلمان المنحل، كانوا يريدون باعتبارهم حزب الأغلبية الذى يشكل الحكومة، تعيين رئيس الجهاز من عندهم لمراقبة أنفسهم!، وأتمنى أن ينجح جنينة فى جعل الجهاز كيانا مستقلا عن الرئاسة والبرلمان، وأن يوقف سيطرة السلطة التنفيذية عليه، وأن يصل موظفوه الى حصون الداخلية والجيش والإخوان المسلمين، وأن يلغى سرية التقارير التى ساهمت فى تفشى الفساد، وأن يسعى فى الدستور إلى انتزاع سلطة حق متابعة قضايا الفساد التى يكتشفها جهازه، وأن يعتبر منصبه الجديد منصة يكمل من عليها ما بدأه فى 2005، وأن يحتمى بالنقاء الذى منحه منزلته، وأن يفعل كما فعل فتحى رضوان الذى لم ينل أى تكريم رسمى فى حياته، ومع هذا.. عاش بيننا وشارك فى الثورة بعد قرن من موته.