يوم 3 فبراير عام 2011 كنت متجهة من منطقة الدقى إلى ميدان التحرير سيراً على الأقدام، لعدم وجود مواصلات وللخوف من السير بسيارتى، وعلى كوبرى أكتوبر عند مطلع الزمالك التقيت بيسرى نصرالله وأخته، مصممة الملابس ناهد، والممثل الشاب آسر ياسين، وبعض أصدقاء آخرين فى طريقهم أيضاً لميدان التحرير، وكنا كلما نتقدم ينضم إلينا آخرون، بعضهم نعرفه والبعض الآخر لا نعرفه، فبدا المشهد كأننا جماعات تلتقى فى طريقها لتحج إلى ميدان التحرير، بحثاً عن عيش وحرية وكرامة إنسانية، وقبل ذلك بسنوات وعلى مدى سنوات كان يسرى نصرالله، أحببت أفلامه أم لم تحببها، بالتأكيد اسم لمخرج متميز، يحترم عمله والسينما التى يقدمها، ويكفيه أنه صاحب فيلم «باب الشمس» بجزأيه، والذى لم يضاهيه فيلم عربى فى عرضه للقضية الفلسطينية، إذن حين يتحدث أحد، أى أحد، عن عمل ما لنصرالله، فلا يمكن بأى صيغة أن يوصمه بأنه من فلول نظام سقط، كرهناه جميعاً، أو أنه فى يوم ما استغل فنه فى الترويج لأى خطأ أو خطيئة، سياسية كانت أم اجتماعية.
لم تكن تلك مقدمة للدفاع عن يسرى نصرالله المخرج الكبير بقدر ما كانت قول حق قبل أن أتطرق إلى فيلمه الأحدث «بعد الموقعة» الذى مثّل مصر فى المسابقة الرسمية فى مهرجان «كان»، كما أنه مثّل مصر، البلد المضيف، فى مهرجان الأقصر السينمائى مؤخراً.. ورغم أنه لم يفز بجائزة فى أى من المهرجانين، فإنه فيلم بالتأكيد هام جداً، خاصة فى هذا الوقت من تاريخ أمتنا التى تعانى من حالة استقطاب مرضية ليست سياسية فحسب، ولكن الأهم أنها صارت تخص المجتمع بأكمله، وهذا هو ما يحاربه نصرالله وعمر شامة، الشاب الذى شاركه كتابة السيناريو لفيلم «بعد الموقعة».
الفيلم يحكى كما يبدو عنوانه عن أحداث تلت ما أطلق عليها «موقعة الجمل»، وحكاية أحد المشاركين فيها من خيّالة نزلة السمان، وما الذى حدث له فى حياته بعد الموقعة، وعلاقة بعض ثوار التحرير به، وكيف كانوا ينظرون له، ثم كيف استطاعت واحدة منهم أن تغير حياته وأفكاره حين عرفت حقيقته، وكيف أنه ككل الشعب مجنى عليه لا جان، فالفقر والجهل والبحث عن لقمة عيش كانت هى من حركته ضد الثوار، ولكن حين احتوته وأفهمته صار منهم، يهتف من أجل العيش والحرية والكرامة الإنسانية مع الجميع فى عزف عام، وليس نشازا كما فعل من قبل.
«بعد الموقعة» يرسم صورة إنسانية لبعض من هؤلاء الذين قالوا عنهم أعداء الثورة، ويطلب من المشاهد أن يرى الجانب الآخر من موقعة بدأ الهجوم فيها من مجموعة خيّالة وعاملين بالنزلة، وانتهت بضربهم وسحلهم، وهى حقيقة مرصودة بالصورة، ولكن لا أحد يتحدث عن «موقعة الجمل» إلا من زاوية واحدة، أهل التحرير والثورة.
وعود على بدء فيسرى نصرالله مش فلول يا بلد، لهذا فحين يطلب من المشاهد أن ينظر للآخر حتى لو اختلف معه، فلا يصح أن يقال عن فيلمه إنه دفاع عن فلول، أو ثورة مضادة. يسرى نصرالله فى هذا الفيلم هو المعادل الموضوعى لمعنى الفن الذى يرى ويتحدث حين يخاف أو يجبن آخرون عن الحديث.
قام بدور الخيال باسم السمرة، وكعادته كان متشرباً بالشخصية، فأجاد تقديمها، وقامت منة شلبى بدور الثائرة، فى إضافة لها ولأدائها الجيد، ناهد السباعى فى دور زوجة الخيّال، علامة لشابة مازال أمامها الكثير، صلاح عبدالله، فيدرا أو فرح، سلوى محمد على، تميم عبده، كلهم ممثلون أجادوا أدوارهم.
سمير بهزان المصور، ومنى ربيع المونتيرة، بالتأكيد كان لهما دور مضاف لقيمة الفيلم، خاصة منى التى استطاعت هذه المرة أن تتجاوز أكبر مشكلة لدى يسرى نصرالله عموماً كمخرج، وهى بطء الإيقاع، ولكن للحق فى «بعد الموقعة» استطاع يسرى ومنى أن يتخلصا من هذه المشكلة.
بالتأكيد هناك بعض النقائص فى هذا الفيلم، ولكن الأهم والأقيم والأوجب بالاهتمام فيه هو أنه يضع المشاهد أمام حقائق وصورة لها جانب آخر لم يرصدها إعلام أو قلم، ربماً جهلاً أو خوفاً من أن يتهم كما يتهم البعض فيلم نصرالله بأنه دفاع عن فلول، وهى نظرة مقصورة كاذبة.
منذ عقود كتب إحسان عبدالقدوس رواية جرحى الثورة عن ابنة أحد البشوات، وكيف ضاعت وخاصمت مصر، وكيف حاول رجل من أهل الثورة أن يستعيدها، ولكن عبدالقدوس كتبها بعد سنوات من ثورة يوليو، أما نصر الله فقدمها والثورة لم تنته بعد، لأنه فنان يبحث عن ثورة بلا جرحى فكفى بنا جراحاً وقتلاً وكراهية قبل وبعد الثورة.