د. محمد على يوسف

فيها .. لأخفيها

الجمعة، 28 سبتمبر 2012 01:44 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عبارة لها وقعُها على الأذان، وقع مألوف نذكره منذ أيام الصبا؛ حين كنا نفاجأ بفتىً متنمر يقف فى منتصف الملعب قاطعًا الطريق على باقى الصبية، مانعًا إياهم عن متابعة اللعب، رافعًا صوته بهذا المبدأ الأنانى السافر: "فيها..لأخفيها"، يهديك.. يرضيك، لا فائدة.. لقد قرر صاحبنا المتنمر أن يلعب، ويفرض نفسه بصوته العالى، وربما بذراعه إذا لزم الأمر، إنه نوع من الصبية لا يأبه أن يكون مظهره بما يفعل مُشيناً، كما لا يُعنى كثيرًا أن تكون كرامته بذلك مهدرة أو مراقة بطريقة لا تزيد من حوله إلا ازدراءً له وربما شفقة على حاله.

ليس مهمًا أن تتردى مبادئه، أو تنحدر أخلاقياته، فهو أساسا لم يسمع فى البيئة التى ترعرع فيها عن تلكم المصطلحات الغامضة: مبادئ، أخلاق، قيم، تجرد، تقديم للمصلحة العامة.. ما هذا الكلام الغريب؟، المهم فقط والذى يأبه له مثلُه أن ينفذ رغباته ويشبع شهواته ويرضى نزقه، وهو الآن يشتهى اللعب، الآن وليس بعد قليل، فليتوقف العالم إذًًا، المهم أن يلعب، وليكن بعد ذلك ما يكون، لكن المباراة قد بدأت بالفعل وقد حُدِدَت الفرق، ألا تنتظر حتى تنتهى؟! ألا تتمهل حتى يُعاد تقسيم الفرق؟! هلا جلست ترقب المباراة الحالية، أو تتجهز للمباراة القادمة، ربما يكون لك فيها مكان؟! ألا تذكر رفضك لأن تكون حارسًا للمرمى حين عُرض عليك ذلك؟ !للأسف..لا فائدة.

مهما حاولوا إقناعه، أو تهدئته، واتقاء شره؛ فإنه لا يستجيب.. فِكر أنانى، وعقلية لا تقبل التفاهم، ولا يحركها منطق، أو يؤثر فيها حوار فقط شىء واحد يقودها ويوجه دَفتها: المصلحة، ومصلحته التى تبدو له الآن: أن يلعب، إذًا سيلعب يعنى سيلعب، والمبدأ واضح وقد أعلنه المتنمر مرارًا وتكرارًا "فيها .. لأخفيها" فأنى يُستهدى بمنطق؟ وأنى يُجدِى حوار؟.

العجيب أن هذا النوع من الصبية تجدهم منعدمى الروح الرياضية، غير متقبلين للهزيمة، وربما كان هذا هو السبب الذى أدى لعدم رغبة باقى الصبية مشاركته اللعب؛ إنهم يعرفون أنه لا يرضى لنفسه ما يرضاه لهم الآن، والعجيب أنه يعترف بذلك دون مسحة حياء أو خجل، لذلك فهم يدركون أنه لا يعى أن اللعب مكسب وخسارة، وأن المباريات سجال، يوم لك، ويوم عليك وأنه متى مُنى بخسارة، أو حدث تبديل للفرق فإنه بمصطلحاتهم الصبيانية اللطيفة "يحمرأ"، ولا يعترف أنه قد خسر، أو أنه قد آن أوان التأخر قليلا ريثما يلعب غيره، يعرف أقرانه ذلك جيدًا ؛ لذا يأبون مشاركته اللعب بهذه الطريقة، وينفرون من أسلوبه المتدنى، وهو يصر كل يوم على إثبات صحة رأيهم فيه، أما لو تجمع الفتية ورفضوا أن يدخلوه اللعبة بهذا الأسلوب؛ فإنه يرغى، ويزبد، ولا يلبث أن يأتى بباقى رفاقه المتنمرين الذين يتناسون فورًا كل ما بينهم وبينه من خلافات، وربما شجارات وعداءات، ويسارعون للتكالب على الصبية الذين دخلوا الملعب بالأساليب الطبيعية والمنطقية.

وبرغم غرابة اجتماع المتنمرين مع التنافر الواضح بين طباعهم، فإن تلك الغرابة تزول حينما تتذكر على ماذا اجتمعوا وما المساحة المشتركة التى التقوا فيها، لقد التقوا واجتمعوا على مواجهة الفتية الذين يشغلون الملعب، تلك المواجهة التى ربما تتطور فى نهاية الأمر إلى معركة تؤول - عادة - إلى توقف اللعب، وضياع اليوم فى النزال، ويكون المتنمر بذلك قد نفذ وعدَه الأول: "فيها.. لأخفيها".

ولو أن الفتى سلك الطريق الطبيعى للعب، فصبر حتى قضيت المباراة الأولى، ثم جاء بفريقه يطلب النزال فى مباراة جديدة تنتهى بمكسب أو خسارة؛ لكان ذلك بلا شك أولى وأكثر احتراما، لكنه فى النهاية الطمع.. طمع المتنمرين.. الذى يُشبه إلى حد بعيد طمعَ بعض السياسيين، ممن يُظن بهم أنهم من الناضجين، لكن من الواضح أن هذا الطمع الصبيانى لا علاقة له بعدد السنين، وأن مبدأ "فيها لأخفيها" ليس قاصرًا على الفتية المتنمرين، ولكنه يصل كثيرًا إلى مَن يفترض أنهم من الكبار والمخضرمين.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة