من المفترض أن يفرح الواحد حينما يسمع أخبارا عن اكتشاف أثرى جديد، لكن لأننا نعيش فى زمن «بالمقلوب» فقد انتابتنى حالة من الهلع حينما قرأت عن اكتشاف لوحة أثرية تضم قائمة بمختلف أنواع القرابين تعود إلى عصر الدولة الحديثة فى العصر الفرعونى المجيد بحى المطرية، ولم يكن هذا الاكتشاف بالطبع هو ما أثار ذعرى وإنما طريقته، فبرغم أنه من المعروف أن تلك الأرض تعج بالآثار، لكن دولتنا المباركة تركتها نهبا للصوص، فقد تم الاكتشاف كما قال بيان وزارة الآثار بالصدفة، أما الحقيقة فقد تم هذا الاكتشاف أثناء حفر أحد المقاولين التابعين لوزارة الأوقاف ليبنى ما يعرف باسم «سوق الخميس الجديد» وتلك المنطقة لمن لا يعرفها تعد من أكثر بقاع العالم أهمية وتحضرا، إذ شهدت هذه الأرض ميلاد أول جامعة فى التاريخ كما تضمنت بقايا مدينة أون الفرعونية المقدسة، وكان شرف الانضمام لها حلما راود أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس، وتضمن أقدم وأطول وأجمل مسلة قائمة فى التاريخ، كما أنها واضعة التقويم الشمسى الذى يعمل به كل العالم الآن، فأى افتراء على التاريخ نمارسه، وأى تخريب للحضارة الإنسانية نهواه.
لا نكل ولا نمل من التفاخر بالحضارة الفرعونية المجيدة، لكننا فى الحقيقة لا نزدرى شيئا قدر ازدرائنا لما نتفاخر به، فكل ما قدرنا عليه هو أن نحول أقدم جامعة فى التاريخ إلى «سوق خضار» فى اجتراء ظالم على التاريخ، وانتهاك واضح للحضارة الإنسانية، ولمن لا يعرف أيضا فقد امتد الزحف العمرانى العشوائى على أطلال هذه المدينة، وعلى أنقاضها بنيت تلك المنطقة المعروفة باسم «عرب الحصن» ولم ينج منها سوى مساحة 54 فدانا، حال دون التهامها تنازع ملكيتها بين الآثار والأوقاف والقوات المسلحة ومصلحة السجون، وبدلا من أن نجتهد فى الحفاظ على ما تبقى من تلك المدينة لتصبح مزارا ثقافيا وأثريا فريدا نفاخر به الأمم، نراها نهبا للصوص ومرتعا للبلطجية وملجأ لتجارة وتعاطى المخدرات، ومطية لأقدام البلدوزارات.
اللافت أنه لم يكن هذا هو الكشف هو الأول من نوعه، فقد سبقه عشرات الاكتشافات الأخرى التى تنوعت نتائجها ما بين بقايا معابد شاهقة ومقابر لملوك وأمراء ووزراء، ولا أعرف ماذا تنتظر حكوماتنا حتى تعرف أن تلك الأرض تعج بالآثار، وأنه يتعين علينا أن نحافظ على ما تبقى من تلك المدينة لتبقى شاهدا على بداية النبوغ الإنسانى، من واقع المسؤولية التاريخية والحضارية، لكن للأسف عقود تلتها عقود، وسماسرة سلموا البلد لسماسرة، مادام تاريخ مصر يباع فى كل وقت وحين، فمن الطبيعى أن تتحول أقدم جامعة فى التاريخ إلى «سوق».
الجديد فى الأمر لم يكن خبر الاكتشاف الذى أشرت إليه فى البداية، لكن أهالى هذه المنطقة الذين يعرفون أنها تسرق يوميا يتبادلون الحديث هذه الأيام عن حفائر أثرية أجراها بعض اللصوص لسرقة آثار تلك المنطقة قبل أن تتحول إلى السوق المزعومة، وبعضهم يؤكد أن اللصوص توصلوا بالفعل إلى بوابة مقبرة، وأنهم فى طريقهم إلى تسويقها عبر تجار الآثار المعروفين مقابل مائة مليون جنيه، فهل ستتحرك حكومة قنديل ووزارات الآثار والداخلية والأوقاف والدفاع قبل أن تقع المأساة؟ وهل ستتحرك الرئاسة أو النيابة العامة قبل أن ينتحر التاريخ على أيدينا؟
لو كنت مكان حكومة قنديل لأوقفت تلك المهزلة فورا ولعينت حراسة مشددة على تلك الأرض ولكلفت فريقا من علماء الآثار لعمل حفائر علمية دقيقة للكشف عن تلك الكنوز، ولسارعت بتخطيط تلك المنطقة وتنميتها لتظل منارة ثقافية رائدة، ولوضعتها على خريطة مصر السياحية لترفع مستوى معيشة سكان المنطقة وتنمى ما بها من عشوائية، فهل من مستجيب؟