يوم 9 المقبل تمر سنة على رحيل خيرى شلبى، ويحتفل صديقنا شعبان يوسف ونخبة من عشاق الرجل الليلة به فى ورشة الزيتون، عام من الفقد على جميع المستويات، ذهب فيه إبراهيم أصلان ومحمد البساطى وحلمى سالم ويسرى خميس وغيرهم من خيرة مبدعى مصر، عام ثقيل على القلب، لأن النتائج المرجوة من الثورة سقطت فى «حجر» آخرين، عام مضطر بعده أن أعيد إعلان محبتى وتقديرى لصاحب الذكرى.
كان عمرى نصف عمره بالضبط عندما تعرفت إليه فى منتصف الثمانينيات، كان يجلس فى مقهى إبراهيم الغول أو «الجنيه» المواجه لمسجد السلطان قايتباى الفاتن «المرسوم على الجنيه»، يكتب ويقرأ ويلتقى أصدقاءه ويشيع البهجة والمرح والمعرفة، وآخر الليل يركب سيارته الفولكس التى تبحث عن المطبات فى الشوارع والتى يركنها فى أى مكان فى القاهرة ويعتبرها رجال المرور لا تحتمل مخالفة، ستجده فى أماكن عدة داخل قاهرته التى يعرف دهاليزها، فى الغورية عند أحمد فؤاد نجم، فى حدائق القبة مع حسن الموجى ومحمد جاد وحامد الحناوى، فى مقهى ريش والأوديون، فى مسرح الطليعة والمسرح القومى، فى الباطنية وشارع المعز، فى مقاه لا تعرف كيف اكتشفها، مقاه منسية وسط تجاعيد القاهرة، لكن لها سحر خاص، الذين يعرفونه سيلتقونه لا محالة فى أى وقت، لا تعرف متى ينام ومتى أنجز رواياته وكيف حفظ كل هذا الشعر ومتى كتب للإذاعة كل هذه المسلسلات؟.
فى كل أماكنه يجلس فى الصدارة وحوله من ينصتون إليه، لا تقدر أن تقول إنه كان قصيراً أو طويلا لكنك ستعرف أنه ممتلئ امتلاء لا إسراف فيه، ملامحه ريفية طيبة، بشرته بيضاء مشربة بالحمرة والخبرة والانتظار، نظارته السميكة تكمل صورته، نظارة يخلعها عندما يشرع فى الكتابة أو القراءة، صوته فيه من شخصية آلة الأرغول قديم ودافئ وودود، عندما يتحدث تشعر أنه سليل حكايات ألف لية وليلة أو الزير سالم وذات الهمة والظاهر بيبرس وكتب الكرامات والحيل الطفولية العظيمة، تشعر أنه سليل التراث العربى الإبداعى الذى يحث على الحياة والتأمل، سليل البداهة المصرية والقدرة الفذة على التواصل مع البشر، سليل الحزن الشفاف الذى ترك ندوبا كثيرة على روحه.
كان قبل أن يكتب فاتنته «الوتد» قد كتب عددا من الروايات المهمة مثل اللعب خارج الحلبة والشطار والسنيورة ورحلات الطرشجى الحلوجى، ولم يهتم بها النقاد، لأن الكاتب كما كان يقول لم يكن يساريا، لكن «الوتد» أجبرت الجميع على الانتباه إلى رافد جديد مضى يشق طريقا جديدا فى فن الرواية العربية بمصر، فى وقت كانت الحفاوة فيه على أشدها بأدب أمريكا اللاتينية المبهر وبالواقعية السحرية التى أحاطت به، اكتشف عشاق هذا الفن وعلى رأسهم الراحل إبراهيم منصور أهمية خيرى شلبى، الذى كان وقتها فى الخمسين، وكان سعيدا بالحفاوة المفاجئة، وشعر أنه نجح فى فرض إيقاعه، وبدأ انطلاقته الكبرى الواثقة بعد ذلك، من خلال: ثلاثية الأمالى، أولنا ولد، ثانينا الكومى، ثالثنا الورق، وكالة عطية، موال البيات والنوم، صالح هيصة، صهاريج اللؤلؤ «عن عبده داغر»، صحراء المماليك، زهرة الخشخاش، نسف الأدمغة، أسباب للكى بالنار، بغلة العرش، موت عباءة، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، والأخيرة مجموعة أحلام للعم أحمد حماد السماك الذى اعتبره العم خيرى ملهما وصديقا له، مات عم أحمد هو الآخر قبل شهور وفى آخر لقاء معه فى مولد سيدنا الحسين كان يعتقد أن «الأستاذ جاى فى السكة».
انحازت أعماله للأشواق المكبوتة عند المصريين كتبها بلغة حريفة مثل شخصياتها، أعمال أرخت للعذابات الصغيرة التى إذا وضعتها جنب بعضها ستتعرف على مصر التى لا تظهر فى التليفزيون أو الصحف لقد سعدت بقراءة أعمال كثيرة وهى ساخنة وكنت أنتظر اليوم التالى لأتابع ما أنجزه فيها. كان خطه جميلاً برغم أنه لا علاقة له بالخطوط المتعارف عليها، هو أقرب إلى خطوط لغة قديمة مقدسة، حروف أقرب إلى الرسم، لكنه خط مبين وواضح، كنت أشفق على مصير شخصياته، برغم الحنو والرقة التى يرسم بها هذه الشخصيات، نجح فى جعل الحكى سلوكا وليس صنعة، وكسر الحدود بين الخيال والواقع، بين الشفاهة والتدوين، بين التاريخ الشخصى والعام، مرات تشعر أنك أمام شاعر ربابة يحكى لك سيرة ومرات أمام جواهرجى ماهر يحول الخامة المتربة؟ إلى عقد مبهر، ومرات أمام حكيم مصرى قديم يشير ولا يفصح، تجربته الصعبة فى الحياة حولها إلى أسطورة حقيقية، واستغل معاناته أفضل استغلال، فقدم للأدب العربى مائدة عامرة بكل صنوف الحكى المصرى، تجلت خبراته وثقافته أيضا فى فن البورتوريه، الذى ارتقى به إلى منزلة الأدب، بدون اللجوء إلى الأرشيف، هو يكتب الناس بخبرته فى الناس، هو يرى نفسه فيهم، يختلف معهم ويغضب منهم، وسرعان ما يرق، هو من أقاربك الذين إذا اختلفت معهم يكون الخلاف حادا وعندما يختفى غبار الخلاف تظهر ابتسامته العريضة التلقائية الآسرة لتعيد كل شىء إلى مكانه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة