يقولون إن الطبقة المتوسطة هى العمود الفقرى للمجتمع لذلك تعانى المحروسة دائما من الانزلاق الغضروفى، حيث تتآكل فقرات الطبقة الوسطى بسبب الإجهاد المستمر وزيادة الضغط، فهى معصورة بين الأغنياء والفقراء بين رأس المال والجعان.. بين مصروفات لا تنتهى وموارد «مشفوطة» من أول يومين فى الشهر.. هم المتعلمون أو إنصافهم من أصحاب الرواتب أو الأجور، مهنيين أو موظفين أو فنيين، الذين يتراقصون فوق خط الفقر مذعورين من السقوط.. تلك الطبقة التى اشتد عودها مع مكاسب ثورة يوليو ومصوا دمها مع الانفتاح وفرضوا عليها الفساد «كأفضل حل» لاستمرار الحياة بعد ذلك.. وأفضل مثال لتلك الطبقة هو موظف الحكومة الذى كان قديما مثالا للوقار والتعليم والشرف وصاحب الدور الأكبر فى بناء هذا الوطن بعد ثورة يوليو كموظفين ومدرسين وأطباء ومهندسين يعملون بأجر من الدولة لتقديم خدماتهم وعلمهم للجميع.. كان هذا الأجر يكفيهم لحياة كريمة متوازنة فى عهد عبدالناصر الذى اتسمت سياساته برقابة صارمة على الأسواق للحفاظ على «التسعيرة» التى شملت كل شىء فى ذلك الوقت.. فكان راتب الموظف يكفى لمعظم احتياجاته الأساسية.. هو وأسرته من غذاء وكساء وتعليم حتى المصايف كانت ميسرة من خلال الدولة، فحافظ على شكله الاجتماعى ومكانته بين الناس وأخلص لعمله وشعر بالانتماء لمؤسسته وبلده.. ولكنه صحى فجأة على كابوس الانفتاح وأموال الخليج وسياسة اقتصادية تشجع التجارة والتهليب وتهمل الإنتاج والرقابة، حتى أصبح البواب يكسب أضعاف أضعاف ما يكسبه مدير الحكومة، وكلنا يذكر فيلم «البيه البواب» والعشرات من الأفلام التى سجلت لهذه المرحلة السوداء.
ونست الدولة أو تناست أن توازنا بين رواتب الموظفين والتضخم الهائل الذى شهدته الأسواق، لذلك انتقل موظف الحكومة صاحب الشنة والرنة إلى أدنى المراتب الاجتماعية والاقتصادية حتى أصبح راتبه فى بعض الأوقات لا يكفيه «عيش حاف».. وكانت الخيارات المطروحة أمامه لزيادة راتبه تنحصر فى البحث عن «شغل إضافى» ليظل يعمل كالمواشى طوال اليوم أو أن يتربح ويتاجر بعمله فى الحكومة.. وبدأت المأساة ولم تنته، فاكتسحت الرشوة كل أركان الدولة وارتبط التعليم بالدروس الخصوصية وأصبح الطب تجارة لا يعرف طريقها إلا الأغنياء واضمحلت خدمات الدولة فى كل شىء، لأن القائمين عليها لا يملكون الانتماء أو حتى الالتزام المطلوب لتلبية احتياجات الناس.. وظهرت العديد من أساليب الفساد فى مؤسسات الدولة بداية من الصناديق الخاصة وانتهاء بالكوسة والوساطة.. بعد أن كان موظف الدولة هو رمز الأمة وصانع حضارتها أصبح هو المشبوه وسبب «وكستها».. هذا مثال واحد عما حدث للطبقة المتوسطة فى مصر وكيف ضعفت وشاخت بسبب سياسات اقتصادية غبية فرضت عليها، أما الجوع والبهدلة أو السرقة والفساد.. وأخشى ما أخشاه أن نستمر على ذلك فلا رقابة على الأسواق ولا توازن فى الأجور ولا عقاب على الاحتكار أو التلاعب بالأسعار ولا خطط اقتصادية للحد من الغلاء أو لخفض معدلات التضخم، فلا هذه هى الرأسمالية ولا هذا من العدالة الاجتماعية.. الوضع أشبه بحلقة المصارعة المفتوحة البقاء فيها ليس للأفضل بل «للأندل».. فلن نقضى على الفساد إلا لو كافحنا أسباب نموه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة