شارع النبى دانيال يكسوه الحزن لضياع التراث.. الباعة يصرون على البقاء ويشعرون بالفخر لأن زويل كان يشترى منهم.. عم إبراهيم: لو جعلونى "جواهرجيًّا" فسأرفض لأبيع كتبًا.. عم حسين يطالب بشراء الكتب وقراءتها

السبت، 08 سبتمبر 2012 07:10 م
شارع النبى دانيال يكسوه الحزن لضياع التراث.. الباعة يصرون على البقاء ويشعرون بالفخر لأن زويل كان يشترى منهم.. عم إبراهيم: لو جعلونى "جواهرجيًّا" فسأرفض لأبيع كتبًا.. عم حسين يطالب بشراء الكتب وقراءتها السوق وباعة الكتب
الإسكندرية – هناء أبو العز

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
شارع النبى دانيال فى الإسكندرية ليس مجرد شارع تعلو فيه المبانى الشاهقة، فبمجرد الدخول إليه تبدأ تَنَفُّس رائحة عهود الرومان والإغريق والعباسيين والفاطميين، وإذا أردت أن تشم رائحة استعمار الإنجليز والفرنسيين وترى بعينيك يهود مصر الذين عاشوا مع مسلميها ومسيحييها فى أمان يدافعون عن استقلال مصر حتى تتنسَّم أنفاسهم حريتها فعليك بالسير فى هذا الشارع.

تاريخ الشارع يرجع إلى مئات السنوات، وهو نموذج للوحدة الوطنية، حيث يحتوى على المسجد والكنيسة المرقسية، وبه أيضًا أقدم معبد يهودى، ويعبِّر الشارع عن مدى ترابط كل المصريين ووقوفهم ضد كل الأعداء.

كثرت الروايات عن هذا الشارع العريق، فالبعض يقولون إنه عندما فتحت الإسكندرية على يد عمرو بن العاص فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، عثر الجنود على المكان، وعليه أقفال من حديد تحيط بحوض من الرخام الأخضر، وعند فتحه وجدوا فيه هيكلاً لرجل ليس على هيئة أهل العصر، فأنفه طويل ويده طويلة وعليه أكفان مرصعة بالذهب، فأبلغوا عمر بن الخطاب بذلك، فسأل علىَّ بن أبى طالب، فقال له: هذا نبى الله دانيال. فأمر عمر بتحصين قبره حتى لا يمسه اللصوص، إلا أن عددًا من الأثريين يشككون فى هذه الرواية ويؤكدون أن الضريح الموجود بالمسجد على عمق حوالى خمسة أمتار هو للشيخ محمد دانيال الموصلى، وهو رجل صالح جاء إلى الإسكندرية فى نهاية القرن الثامن الهجرى، وقام بتدريس أصول الدين وعلم الفرائض على النهج الشافعى، وظل بها حتى وفاته سنة 810هـ ودفن بالمسجد الذى يعود تاريخ بنائه إلى القرن الثانى عشر الهجرى.

ومنذ عشرات السنين بدأ الشارع يأخذ مهنته من طابعه التاريخى، فقام عدد من هواة قراءة الكتب ببيع الكتب التراثية والتاريخية على الأرصفة، وبدأ الكل يتهافتون عليهم من جميع المحافظات، ثم توسع الأمر إلى الدول الأخرى، وبدأ الشارع يتحول إلى مزار سياحى ثقافى يتوافد إليه الكثير من العرب والأجانب فى محاولة البحث عن تاريخ مصر فى شوارعها والكتب التى تحكى عنها حتى تحوَّل هؤلاء الهواة إلى محترفين للمهنة بعد عشقهم الكتب ورغبتهم فى توسيع ثقافة المجتمع حولهم، واختلطت وجوههم بروح الشارع، أصبحوا يُملون على زبائنهم ما هو أفضل لهم، تخرَّج على أيديهم العلماء والأطباء والكتاب والباحثون وغيرهم.

وبدأ الفخر يدب فى صدورهم عندما حصل العالم أحمد زويل على جائزة نوبل بعد أن كان يشترى الكتب منهم، وكذلك الكاتب بلال فضل، والشيخ الصردى، وغيرهم الكثير ممن ذاع صيتهم فى العالم كله.

ذهب "اليوم السابع" إلى الشارع بعد أن قامت قوات الأمن والمرافق بإزالة بعض الأكشاك المليئة بالكتب، كان الشارع حزينًا ظهرت دموعه فى أعين شيوخ المهنة الذين لم يستطيعوا أن يصفوا ذلك سوى بالإشارة إلى بعض الكتب القديمة التى تمزقت على الرغم من محاولاتهم المريرة للحفاظ عليها سنوات وسنوات، لحين إيصالها إلى من يعرفون قيمتها، وإلى أن يقوموا بتسليمهم إياها بفرحة تسليم الأمانة.

قابل "اليوم السابع" عم إبراهيم سويلم أقدم بائع كتب فى الشارع، لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه يحتفظ بكتب الجاحظ وابن خلدون وابن سلام، يعرف من هو صاحب فتح البارى، يعرف قيمة المخطوط القديم، يستطيع أن يدلَّك إلى ما تريده بمجرد أن تخبره عن هويتك الفكرية.

أهدانى عم إبراهيم عددًا من الجرائد القديمة التى جذبت انتباهى، وقال لى: "حتستفيدى، اقريها عشان تعرفى تاريخ بلدك صح". وعلى الرغم من ابتسامته المعبرة عن سعة قلبه فإن عينيه لم تخفيا حزنه على ما دهسته سيارات المرافق من كتب قيمة.

قال عم إبراهيم: "الكتب مش ورق وحبر، ده تاريخ وثقافة وعلم، فكيف لهم أن يهدموا تاريخهم ويدوسوه بأقدامهم، لم أعرف القراءة والكتابة ولكن العلم الذى اكتسبته من معاشرتى الكتب جعلنى أُحبِّب أبنائى فيها، حتى أصبح ابنى الكبير يملك مكتبة فى منزله يزايد عليها القاصى والدانى، وهو لا يرغب فى التفريط فى جزء منها".

وأكد عم إبراهيم أن المكسب من بيع الكتب ليس بالكثير، ولكنه يكفيهم لعيشهم، قائلاً: لو جعلونى "جواهرجيًّا" برده هبيع "كتب". مؤكدًا أن هذه المهنة قامت بفتح بيوت كثيرة، مشيرًا إلى الشباب الذين تخرجوا بمؤهلات عليا دون أن يجدوا وظيفة تمنحهم العيش الكريم، هذه المهنة التى هى أفضل من وظيفة عامل أمن أو وظيفة مندوب مبيعات.

ويحكى عم إبراهيم مغامراته فى شارع النبى دانيال قائلاً: "كنا نفرش على الرصيف وتأتى البلدية وقت الزيارات المهمة وتأخذنا، ولكن كنت أهرب بالكتب، والضباط كانوا زمان بيسيبونا لأنهم كانوا عارفين قيمة الكتب، وفى عهد النظام السابق لم يكن للشرطة والمرافق هم سوى التخلص منا، وحاولنا إرسال شكاوى أكثر من مرة لسوزان مبارك، باعتبارها كانت داعمة للثقافة فى مصر، دون جدوى، حتى كان عهد المحافظ عبد السلام المحجوب، الذى خصص لنا أكشاكًا قام بإنشائها من أموال المحافظة وقام بتسليمنا إياها، ومنذ ذلك الحين لم يقترب منا أحد حتى فوجئنا بصاعقة المحافظ الجديد محمد عطا عباس، الذى تبين لنا أنه لا يعرف عن العلم سوى المدارس الأجنبية والتجريبية، ولا يعرف عن الكتب سوى الدراسية".

ويقول عم إبراهيم: "باعة الكتب فى شارع النبى دانيال يقومون بما لا تستطيع الحكومات عمله، فتجدهم يقومون بأداء دور وزير التعليم العالى أثناء مساعدتهم طلاب الجامعة، ودور وزارة التربية والتعليم لقيامهم بمساعدة تلاميذ المدارس، كما يقومون بأداء دور وزير التضامن الاجتماعى لقيامهم برفع العبء عن الفقراء الذين لا يملكون تكلفة الكتب الخارجية وكتب "سلاح التلميذ" التى يبيعها بالقليل من الأموال مقارنة بثمنها عند شرائها جديدة من مكتبتها.

ووصف حسين محمد حسين، من الباعة القدامى بالشارع، ما حدث من إزالة أكشاك بيع الكتب بأنه جهل من ناس يهدمون العلم، مشيرًا إلى أن العهد الفاسد لم يجرؤ يومًا على دهس كتاب، ولكن العهد الذى من المنتظر أن يكون مثل عهد سيدنا عمر بن الخطاب قام بهدم الأكشاك.

وقال حسين إنه فى الشارع منذ 56 عامًا وساعد الملايين من الشباب فى أن يصبحوا علماء وأطباء وأساتذة، وإنه عشق مهنته التى كرمها الله فى القرآن، بعد أن أدرك قيمتها التى لا تُقدر بالملايين، فهى كنز المعرفة التى لو أدرك المسئولون قيمتها فى تطوير البلاد لاتخذوها منهجًا يسيرون عليه، موجهًا إلى الحكومة رسالة قائلاً: "تعالوا زوروا الشارع وخذوا كتبًا واقرأوها وهى ستوصيكم بالحفاظ علينا".

وأشار حسين إلى شعوره بالفخر لأن بلال فضل كان من أهم زبائنه وأثمرت فيه العشرة ودافع عن الكتب وتراث مصر الثقافى.

أما ناصر محمد فهو من أحد أصحاب الأكشاك التى تم هدمها أمس، ولكنه أصر على أن يبيع كتبه فقام بعرضها على الرصيف، وهى ممزقة، تأكيدًا منه على رفض التدهور الثقافى وحضارات الأمم الموجودة فى هذه الكتب.

من جانبه أكد اللواء خالد غرابة، مساعد وزير الداخلية لأمن الإسكندرية، أنه يعرف قيمة هذه الكتب وتراث شارع النبى دانيال ولا يجرؤ على هدمه، إلا أن مهمته كانت تنفيذ قرارات الإزالة التى قام حى وسط بتحريرها لبعض هذه الأكشاك التى بُنيت بعد ثورة 25 يناير، استغل الذين بنوها حالة الانفلات الأمنى التى عاشتها البلاد لفترة، ما أدى إلى تكدس أزمة المرور بالشارع وورود بعض الشكاوى من المراكز الثقافية الموجودة بالشارع لمخالفة هؤلاء الباعة الحدود القانونية لهم.

وأشار غرابة إلى أنه لم يُزِل سوى 15 كشكًا للكتب، وعدد من الفرشات التى كانت على الرصيف بعد إنذارهم أكثر من مرة لتوفيق أوضاعهم مع الحى.


























مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة