كنت واحداً من هؤلاء الذين ينتظرون هواء الشتاء غير الدافئ حتى تتخلص الشوارع من حملها الزائد، وأجد طريقاً أسير فيه دون الحاجة إلى الاهتمام بدراسة قوانين الفيزياء من أجل تفادى كتف امرأة تسير بأربعة عيال ورجل على رصيف عرضه متر ونصف المتر، ودون الحاجة إلى معاناة تعلم القيادة للنجاة من أحذية السائرين فى الطرقات بغير هدى، أو من انشغلت عقولهم وأبصارهم بكيفية استكمال وجبة الغذاء الخاصة بيوم غد.
لهذا كله كنت أنتظر هواء يناير البارد لكى أملك الشوارع وحدى.. من أجل شربة العدس، والإحساس بكرم البطانية، ونعمة البخار الهادئ الذى يتصاعد راقصا من كوب شاى خفيف سكر زيادة، كنت أحب هواء يناير البارد ولا أخشى أبداً من أمطاره التى تؤكد مع كل شتوية أننا بلد ولكننا لسنا دولة لأنه لا توجد دولة تغرق فى شبر ميه.
هذا عن يناير وديسمبر وشهور الشتاء العادية.. أما هذا اليناير وهذا الشتاء الذى نعيشه الآن ولا نجد طريقة لنهرب بها من لسعات برده وفيروسات الإنفلونزا والارتباك والضعف والكذب الرئاسى، وتفشل شوربة العدس فى صد الهجمات المتتالية من الرعشات والتكتكات التى تسببها نسائمه، وتعجز البطانية عن الحد من برودة لياليه، وتتوقف أبخرة كوب الشاى فيه عن الرقص لأن الشاى نفسه يبرد قبل أن يصل إلى محطة شفتيك.. هذا الشتاء علمنى الأدب، فلا شوارع أملكها وحدى مع أنها خالية، ولا حفلة منتصف ليل فى أى سينما لأننى أخشى مواجهة برد ما بعد الخروج من دفء القاعة وأحداثها الدرامية، وما يصحبه من فيروس قد يدفعنى لدخول مقبرة حميات العباسية، أو السقوط فى فخ المناقشات السخيفة حول الدولة العميقة التى يعلق عليها مرسى فشله، ورئيس جمهورية مصر العربية الذى اكتشف الجميع كذبه بتسجيلات صوت وصورة واحدة أجزم فيها أنه عمل بوكالة ناسا وتسجيل آخر نفى فيه قطعيا عمله بوكالة ناسا دون أن يفسر لنا لماذا يكذب الرجل الذى يتحدث كثيرا باسم الله والدين والإسلام؟! والخروج من تلك النقاشات بتأكيد أسخف على أننا سنظل نجرى فى المكان دون أن نصل للهدف لأننا لا نملك الخريطة، ولا نملك الرصيد الكافى من الإخلاص لصناعة دولة قوية.
مشكلتى الوحيدة أننى مازلت أثق فى الشتاء وشهوره، أليس كافيا أن شتاء 2011 وينايره قدم لنا ثورة عظيمة نجحت فى القضاء على نظام وحاكم كنا نظن أنه سيبقى طالما بقى فى قلبه نبض كما أخبرنا.
مشكلة هذا الشتاء الوحيدة أن السخونة التى صنعتها أكاذيب الرئيس وجماعته لم تنجح فى إذابة كل قطع الجليد الفاسدة منذ عصر مبارك الجليدى الذى دخلت فيها مصر إلى «ديب فريزر» وخرجت غير قادرة على تحريك أطرافها.
مازال الجالسون على كراسى المسؤولية يتمتعون ببرودة وسذاجة السابقين، بل إن بعضهم أكثر برودة وضعفا وسذاجة من هؤلاء الذين سكنوا ثلاجة نظام مبارك، وهذا النوع جربناه على مدار 30 عاماً دمهم لا يفور ولا يغلى مهما كشفت الفيديوهات وتصريحات الصحف كذب وعودهم وخواء مشاريعهم ومهما كان عدد الذين ماتوا فى أحداث قطار أسيوط أو على حدود سيناء أو فى أحداث محمد محمود أو أمام الاتحادية مثلهم مثل سابقيهم الذين لم يهتز لهم طرف أو يرتعش لهم ضمير بسبب غرق العبارات أو أنقاض العمارات المتهالكة أو على أسفلت طريق لم يهتم المسؤول عنه بصيانته أو تأمينه قدر اهتمامه بما سيسرقه من أموال الدولة.
رغم كل ذلك، رغم فشل سخونة الثورة فى إذابة جليد الماضى مازلت أثق فى الشتاء ومفاجآته، لأن الشتاء قبل الماضى علمنى أن النظام الذى يحكمنا، وهو متكئ على أكبر قطعة ثلج فى الجانب الأيمن من أكبر «ديب فريزر» عرفته البشرية بارداً وساقعا بلا إحساس وبلا طعم وبلا أهمية.. ولا تهتز قلوب رجاله لمصائب الناس، ستأتيه نار من حيث لا يدرى ولا يحتسب ليذوب الثلج من حوله ويتعرى تماماً.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة