تعجبنى جداً حكاية شاعر قديم قرر أن يترك مهنة الشاعر ويعمل صبى جزار، ولما سألوه عن السبب ارتجل آخر بيت شعر فى حياته قائلا:
بالعظم صارت الكلاب تجرى خلفى وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وسبب إعجابى هو صدمة الشجاعة لهذا الرجل الذى قرر أن يبتعد عن نفاق الملوك والأثرياء والوجهاء، الذين يبيع لهم ضميره وشعره مقابل لقمة العيش، واستبدل القلم بالساطور، وهجر السجع والنسخ والتشبيه والأوزان والقوافى، من أجل الـ"هُبر" واللحمة والكبدة والعكوة والكوارع، ليوفر غذاء المعدة وينام سعيداً وشبعاناً وقرير العين هو وزوجته وأولاده، بدلا من الشعر والتسول و"قلّه القيمة" والتذلل "للى يسوى واللى ما يسواش"، والأهم من كل ذلك أن الكلاب الأوفياء صارت تحتشد أمام بيته لتحصل على العظم مقابل الحراسة وتخويف اللصوص والكلاب لا تخون، وارتاح من البشر الجاحدين الناكرين الأندال، الذين لا يعرفون الوفاء.
وتؤلمنى جداً حكاية الألم والعذاب التى عاشها الفنان العظيم "عبد الفتاح القصرى" فى أيامه الأخيرة، فأثناء وقوفه على المسرح مع الفنان إسماعيل ياسين صرخ فجأة "الدنيا ضلمة أنا مش شايف"، فظن الجمهور أنه جزء من الدور وزاد الضحك، إلا أن إسماعيل ياسين أدرك الحقيقة وسحبه فى الكواليس، ثم توالت الكوارث وطلبت زوجته التى تصغره كثيراً فى السن الطلاق بعد أن أخذت كل أمواله وممتلكاته، وتزوجت من شاب صغير كان القصرى يحتضنه ويعتبره زى ابنه، فزهد الحياة وامتنع عن الكلام وحبس نفسه فى منزله، وأكملت البلدية المأساة بهدم البيت الذى كان يعيش فيه، فسكن غرفة صغيرة ورطبة ومظلمة تحت بير سلم فى الشرابية، وضعفت صحته بسبب الهم والمرض والفقر والبرد وقلة الغذاء وفقد الذاكرة تماما وانتابته حالة هذيان، حتى لقى ربه فى 8 مارس سنة 1964، ولم يحضر جنازته سوى ثلاثة أفراد من أسرته والفنانة نجوى سالم.
فى الحكايتين عبرة وعظة لا يجب أن تغيب على البال، وهى ضرورة أن يعمل الإنسان حساب "غدر الزمن"، فلا يأمن لسلطة ولا سلطان ولا مال ولا جاه ولا أصدقاء ولا أحباب، ولا يسرف فى استعراض الصحة والعافية والقوة والعضلات، فحين تدور الدوائر لا منقذ منها إلا الله سبحانه وتعالى، خصوصا فى هذه الأيام حيث أصبحت الأزمات كثيرة ومتلاحقة وسريعة وتأتى فجأة ودون سابق إنذار، مثل العمى الذى فاجأ عبد الفتاح القصرى على المسرح فظن الجمهور أنه تمثيل، وكثير من الأحداث التى تمر بنا تشبه الحبكات الدرامية التى يكتبها مؤلف سوداوى المزاج، كل ما يهمه هو أن يصيب الجمهور باليأس والحزن والإحباط، والدول مثل البشر كلما ساءت حالتها النفسية، انخفضت مناعتها وضعفت قدرتها على المقاومة وتفشت فيها الأمراض.
الغنى لا يدوم وكذلك الصحة والشهرة والجاه، والحياة يوم حلو ويوم مر، ولكن قد تكون حلاوتها أكثر من مرارتها أو العكس، والعاقل هو الذى لا يغتر بحلاوتها ولا يقنط من مرها، وإنما يسلح نفسه بالتعايش السلمى مع الأفراح والأحزان والصحة والمرض والغنى والفقر، فلا يتشبث ببريق زائف كما فعل الشاعر الذى اعتزل الشعر وعمل صبى جزار، فسد جوعه ونام مستريحا وأنقذ نفسه من حياة الكذب والنفاق.. ولا يحاول أن يأخذ من الحياة أكثر من حقه كما فعل عبد الفتاح القصرى الذى تزوج فتاة أصغر من أولاده ليجمّل شيخوخته فى صباها، فتركته فى محنة المرض لإنقاذ شبابها من أنياب شيخوخته، بعد أن أخذت من الشهرة زهوها وبريقها وتركت ظلالها.
قد تسألنى: لماذا تذكرت هاتين الحكايتين فى هذا الوقت بالذات؟.. ربما لأننا أصبحنا نعيش تحت حصار الشاعر والجزار وعبد الفتاح القصرى والندالة وعدم الوفاء.