عند الشدائد يظهر ويتجلى المعدن الأصيل للمصريين فى الداخل والخارج، تنادى مصر على أبنائها وتستغيث بهم فيسرعون لتلبية نداء الوطن والفداء. فى كل الأزمات التى مرت بها مصر طوال تاريخها كان أبناؤها من العمال والفلاحين والبسطاء أول من يقدم كل ما يملك من دم وعرق ومال دون انتظار جزاء ولا شكورا وهذه هى عبقرية هذا الشعب وروعته وإبداعه فى أيام الانتصار ولحظات الانكسار، لا يتخلى عنها أبدا ويذوب فيها عشقا مهما كانت الظروف لأنها عنده «أحب وأجمل الأشياء».
وصدق عمنا صلاح جاهين عندما لخص حالة العشق الصوفى للمصريين لبلدهم فى قصيدته الرائعة على اسم مصر: «باحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب وباحبها وهى مرميه جريحة حرب باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء وأكرهها والعن أبوها بعشق زى الداء واسيبها واطفش فى درب وتبقى هى فى درب وتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب».
ما فعله المصريون بالخارج هو أصدق تعبير عن هذه الحالة وجاءت تحويلاتهم هى المنقذ الحقيقى للاقتصاد المصرى خلال العامين الماضيين وحققت أرقاما «تاريخية وقياسية» للمساهمة فى خروج مصر من أزمتها الاقتصادية الحالية، ومنذ 25 يناير أطلق المصريون بالخارج العديد من الحملات الوطنية لدعم البورصة والاقتصاد بشكل عام، وآخر هذه الحملات الآن هى حث العاملين فى الخارج على تحويل مدخراتهم بالدولار إلى البنوك المصرية لإنقاذ العملة المحلية من التراجع والانهيار وتوفير العملة الصعبة اللازمة للاحتياطى النقدى الأجنبى».
خلال العامين الماضيين ارتفعت تحويلات المصريين بالخارج بنسب كبيرة حتى بلغت فى آخر الأرقام نحو 18 مليار دولار فى سابقة لم تحدث من قبل، وأصبحت هذه التحويلات تمثل المورد الثانى من النقد الأجنبى لمصر بعد عوائد الصادرات، وتجاوزت معدلات عوائد قناة السويس والسياحة أو الصادرات البترولية وعوضت تراجع عوائد السياحة والاستثمار الأجنبى المباشر وخروج الأموال الساخنة من مصر بعد الثورة، وكذلك العجز بالميزان التجارى.
هذا الموقف الوطنى من أبناء مصر بالخارج يستحق رد الجميل من الدولة بقرارات عملية تشعر هؤلاء بأنهم ليسوا مجرد مصدر لضخ العملة الصعبة فقط، وإنما جزء أصيل من أبناء الوطن بالداخل، فهناك صعوبات ومعوقات كثيرة يواجهها المصريون بالخارج تحتاج إلى قرارات شجاعة من الدولة، فإنشاء هيئة لرعاية المصريين بالخارج خطوة مهمة، لكن تحتاج إلى خطوات أكثر أهمية لتحقيق كل مطالب المصريين بالخارج وخلق جسور الثقة بينهم وبين وطنهم، وتقديم المزيد من التسهيلات لهم داخل الوطن. فلماذا لا يكون للمصريين بالخارج نسبة تمثيل داخل البرلمان مثلا فى إطار المساواة الكاملة بين المواطنين فى الداخل والخارج!.