السكة الحديد المصرية هى ثانى سكة حديد فى العالم بعد السكة الحديد الإنجليزية فى أواسط القرن التاسع عشر. أكثر من مائة وخمسين سنة الآن مرت على السكة الحديد المصرية.
كانت السكة الحديد قبل ثورة يوليو 1952 هى ركوبة الزوات وأولاد الناس فى درجتيها الأولى والثانية، وكانت ركوبة الشعب البسيط فى درجتها الثالثة. الدرجة الثالثة كانت هى عالم الحكايات الغريبة والجميلة بين المسافرين الذين كان لكل منهم مكان إلا قليلا يركبون على الأرفف، خاصة فى قطار الصعيد الذى كان مزدحما لقلة القطارات وتباعد ساعات سفرها. كان كل شىء فى السكة الحديد يعمل يدويا. السيمافور ينزل أو يرتفع بسلك ممتد على الأرض متصلا بالبلوك الذى به التحويلات. وكان للسيمافور عامل يصعد عليه ليلا ليشعل قنديله الزيتى، والتحويلات الأرضية متصلة بالسلك إلى البلوك أيضا يقوم العامل فيه بتجريبها فتحا أو غلقا حسب اتجاه القطار. وكانت المزلقانات عليها عامل يعرف مواعيد القطار فيغلقها أو يفتحها. ولم تكن تحدث حادثة إلا نادرا جدا جدا، وذلك لسبب بسيط أن عامل البلوك يعرف مواعيد القطارات التى لا تتأخر. وإذا حدث وتأخرت فما أسهل الاتصال التليفونى به لإخباره بالموعد الجديد. حتى فى الشتاء، أوقات الضباب، كان العامل اليدوى يضع قبل المحطة التى قد تخفى على سائق القطار بالليل كبسولة على القضيب، إذا مرت عليها العجلات فرقعت وسمع السائق صوتها فيدرك أنه مقبل على محطة ويهدئ من سرعته. كان كل شىء يعمل يدويا ولم تكن تحدث حوادث إلا على مسافات من السنين.
ظل هذا الأمر حتى السبعينيات من القرن الماضى، حوادث نادرة. ثم بدأت الحوادث تزداد. ثم ازدادت فى الثمانينيات وازدادت أكثر فى التسعينيات من القرن الماضى وازدادت بشكل مخيف فى السنوات العشر الأولى من هذا القرن ثم ازدادت إلى حد الرعب فى العامين الأخيرين. الذى جرى هو الإهمال الفظيع للسكة الحديد، فعربات الركاب فى قطارات الدرجة الأولى والثانية صارت مزابل مع ارتفاع أسعارها الجنونى، وعربات الدرجة الثالثة صارت جحيما. ورغم التطور التكنولوجى فى القطارات أهملت القضبان والطرق فلم تعد بقوة سرعة القطارات. ولم يتعلم العمال فى البلوكات أو المزلقانات ما يجعلهم على مستوى هذا التطور.
وتضاربت مواعيد القطارات مما يربك أى عامل فى البلوك رغم سرعة الاتصال. والربكة طبعا من زيادة عدد القطارات. هذه الزيادة التى كانت تستدعى انضباطا فى المواعيد وهى زيادة مؤهلة للازدياد أيضا! بل يجب أن تزيد قياسا على عدد السكان. ويمكن أن يأتى علينا يوم يقوم فيه قطار كل ربع ساعة أو عشر دقائق وعلى نفس الطريق. هذا ما يحدث فى كل الدنيا لتظل القطارات مريحة وغير مزدحمة وتنتهى ظاهرة الواقفين والجالسين فى الطرقات والمعلقين فوق القطارات. هذا هدف يجب أن تعمل من أجله الحكومة. لكن الإهمال الجسيم الذى جرى عبر السنين الماضية كان هدفه شيئا واحدا، هو إفقار وإفلاس هيئة السكة الحديد ليتم بيعها يوما للقطاع الخاص. ولقد رأينا كيف جرى بذخ شديد لتجميل محطة رمسيس انتهى بها وكأنها دورة مياه لمحدث نعمة، وأخفى ملامحها الكلاسيكية الرائعة التى تحافظ عليها دول كإنجلترا أول من أنشأ السكة الحديد، ورأينا فى الإسكندرية تطويرا تجاريا سخيفا لتتحول محطة سيدى جابر، التى كانت تحفة معمارية، إلى مول تافه كأن البلد ناقصة مولات، واختفت ملامحها الإنجليزية الجميلة. وهكذا بدا أن المهم ليس السكة الحديد، ولكن ابتداع وسائل للربح السريع رغم أن السكة الحديد عبر أربعين سنة فرطت فى أهم مصدر للربح وهو قطارات البضائع، التى كانت تنقل البضائع عبر البلاد، مما فتح الطريق للنقل البرى لصالح رجال المال، فجرت المقطورات وسيارات النقل على كل الطرق وفى كل الشوارع، فأربكت المدن وصارت الحوادث أخبارا. فى الإسكندرية فى منطقة القبارى منطقة أرصفة تاريخية من عصر إسماعيل باشا، كانت القطارات تأتى إليها زمان من الصعيد والدلتا محملة بكل شىء، وفى طريقها تفرغ شحناتها للبلاد، فكان النقل الذى ينقلها هو النقل الداخلى للمدينة ولا حاجة للنقل على الطرق السريعة. كان القطن يأتى عليها والبصل والقمح والبلح وكل شىء، وصارت الآن مهجورة من سنوات طويلة نمت فيها الحشائش وخربت أسقفها، ولم تعد تستقبل غير قطارات عربات العسل الذى لا يمكن نقله فى السيارات. وكانت القطارات أيضا تحمل البضائع المستوردة من ميناء الإسكندرية تسافر به إلى البلاد. بل أكثر من ذلك كانت تستقبل الأسلحة والدبابات. انتهت عربات البضائع إلا قليلا تافها، وكثر نقل السيارات والمقطورات وخسرت السكة الحديد مصدر رزق كبيرا، وبدأت تبحث عن مولات وإهدار القيم الجمالية للمحطات الكلاسيكية. وطبعا تزامن مع هذا كله إهمال فى التدريب للعاملين وظلم فى المرتبات وإهمال فى الصحة والعلاج. وكل شىء سيئ يساهم فى تطفيش العاملين وكل ذلك تمهيدا لبيعها للمحظوظين يوما ما. تماما كما حدث مع شركات القطاع العام العريقة. قامت ثورة يناير ولم يحدث أن أحدا أعاد النظر فى أحوال هذه الهيئة العريقة فكثرت الإضرابات والتظاهرات وقطع الطرق، رغم أن كل مطالب العاملين أهيف من تحديث مكاتب المسؤولين التى تتم كلما تغير وزير بعد وزير ورئيس هيئة بعد رئيس. انكشف كل شىء لأنه لم يعد ممكنا إخفاء أى شىء فى عصر الميديا. ونسمع عن تطوير المزلقانات على سبيل المثال على عدد من السنين بواقع خمسة عشر مزلقانا كل شهر. يا سلام. كأن تطويرها كلها فى عام أمر صعب، وكأن أرواح الناس أقل قيمة من المال الذى لا يجب إنفاقه إلا متدرجا! أما ورش الصيانة فحدث ولا حرج ولا أحد لديه الشجاعة أن يحيل القطارات التى عفى عليها الزمن ولا العربات القديمة إلى الاستيداع والخردة. وهكذا نفاجأ كل مرة بحادثة مختلفة. فمرة بسبب المزلقان ومرة بسبب التحويلة ومرة بسبب الصيانة وهكذا، لأن لا أحد يريد أن يواجه الحقيقة، فإن تطوير السكة الحديد الآن أهم من تطوير أى شىء آخر لأنها صارت أنهارا للدم المراق.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة