«عندما قامت ثورة يوليو كنت ما أزال صبيا صغيرا، ولكننى كنت مهتما بالأدب والسياسة.. ووضعت نفسى من أول لحظة فى صفوف المعارضة، كنت أظن أن الثورة تجربة مماثلة لتجربة الشيشكلى فى سوريا، ورغم الإنجازات التى توالت فإننى– وبعضنا- كنا نبررها، ولا نحسبها للنظام، وعندما أمم ناصر قناة السويس فى 26 يوليو 1956 ولد شىء جديد فى جيلنا.. لقد تحول جمال عبدالناصر إلى «أب» ومن كان مثلى معارضاً كان متمردا على الأب، لم أصارح نفسى أنى فى صفه ولكننى كنت أجد نفسى دائما تحت رايته، كنت أنتقد وأروّج النكات وأتمنى التغيير لكن لم يكن لدى حلم خارج النظام.. وجيلى يعانى من 5 يونيو وبعضهم يبرر بها تحوله وهى كذلك بالنسبة لى، وقد يبدو ما أقوله غريبًا ولكن فى هزيمة يونيو انحزت إلى عبدالناصر بحسى قبل وعيى وأدركت أننى فى وطن مكتوب عليه أن يقزم وأن يقلل من أهميته إلا إذا جاءه رجل مثل جمال عبدالناصر.
كتبت عن عشرات الشخصيات التاريخية من امرئ القيس إلى بيبرس وقطز إلى المتنبى إلى سليمان الحلبى.. وفى الاقتراب من كل شخصية يزداد الخلاف معها، وغالباً لأن الإنسان مقيد بعصره وظروفه.. والغريب أن ما حدث عندما كتبت عن جمال عبدالناصر كان عكس ذلك تماما، لقد بدأ التوحد مع العدوان الثلاثى، وكان الانحياز مع 5 يونيو، أما الحب فقد بدأ مداه عندما بدأت محاولة التعرف على جمال عبدالناصر كإنسان وما أثر فى لم يكن حكايات تروى بل ملموسة، فقد اطلعت على صندوق ملىء ببطاقات بريدية كان يرسلها إلى كل أفراد أسرته فى كل رحلة يقوم بها إلى خارج البلاد.. لقد حاولت أن أجرب بنفسى وفى أول مرة سافرت فيها اشتريت - مثلما كان يفعل - بطاقات سياحية، وجلست لأكتب لأفراد أسرتى بضع سطور - ولم أستطع ولم أجد وقتا كيف كان يستطيع رجل مثله أن يكتب وكيف كان يجد وقتا وهو يحمل ما تنوء بحمله الجبال؟! هذا الرجل لم يعرف من طيبات الدنيا إلا الجبنة والزيتون ومشاهدة الأفلام السينمائية وسماع أم كلثوم، وأدهش عندما أعرف أنه كان يشغل الدنيا ويذهب إلى مدارس أبنائه ليحضر مجالس الآباء».
هذه هى بعض من المقدمة التى قدم بها الكاتب الكبير قيمة وقامة محفوظ عبدالرحمن لأحدث إصدارته «ناصر 56» الذى يضم بين دفتيه سيناريو فيلم ناصر الذى أخرجه محمد فاضل وقام ببطولته الساحر أحمد زكى منذ عقود.. وربما تعد تجربة محفوظ فى إصدار سيناريو فى كتاب من التجارب القليلة فى مصر والقيمة أيضًا، بينما فى الغرب كثير من السيناريوهات السينمائية يتم تحويلها لكتب وتجد رواجا شديدا بين القراء إما المهتمين بالسينما كنوع من الدراسة أو عموم القراء للمقارنة والاستمتاع بالعمل المكتوب والعمل المرئى فى الذاكرة.. «ناصر 56» يمثل حالة فنية خاصة سواء موضوعا أو كتابة أو إخراجاً، ولكن الأهم أنه يمثل ظاهرة إنسانية وسياسية وشعبية غير مسبوقة برغم مرور 95 عاماً على ميلاد الرجل صاحب الاسم و43 عاما على وفاته، إلا أنه مازال ملهماً لشباب لم يعاصروه وأجداد كانوا صبية حين مات، صور ناصر كانت مرافقة لشباب 25 ينايرحين خرج مطالباً بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
وقد أفهم كيف يكون زعيم حتى بعد عقود من موته ملهماً لشباب، ولكن لا أستطيع أن أفهم كيف يكون رجل خصما ومعارضة قوية حتى وهو فى قبره لجماعة تتملك مقاليد الحكم، وتمسك بتلابيب مصر الآن، فناصر رغم الغياب مازال يمثل اسما تخافه وتكرهه جماعة الإخوان وهم أحياء وعلى كراسى الحكم، بينما الرجل ميت فى القبر وفى ذمة الله. وربما لو عدت إلى المقدمة التى كتبها الأستاذ محفوظ عبدالرحمن وأشرت إليها فى البداية قد تفهم جزءا من العلاقة بين الناس وناصر ومحفوظ عبدالرحمن واحد منهم.
لقد ذكر محفوظ عبدالرحمن فى المقدمة لكتابه أنه يكره كتابة المقدمات، وللحق ما كنت لأستمتع استمتاعا كاملا بهذا الكتاب لو لم يحمل تلك المقدمة الشارحة لأسئلة لم أكن أعرف إجابتها، ولكنى أدركتها مما كتب. ناصر كزعيم وكفيلم وكسيناريو وككتاب حالة قيمة نحتاجها كأكثر ما يكون الآن، فإن كان الزعيم قد طواه الثرى فإن محفوظ عبدالرحمن استطاع بإصدار كتابه أن يعيد لنا جزءا من الحالة القيمة التى نحتاجها ونحن مازلنا ننادى فى الشوارع وعلى الأوراق «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية».