أعترف أمامك الآن أننى كنت من أشد مهاجمى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كما أعترف أيضا بأن مهاجمتى له قديما كانت تمردا، تلك الصورة المثالية التى يرسمها له مناصروه وكأنه «آخر الأنبياء» وهى الصورة التى اقتنعت بها صغيرا وعشقتها، لكن لما توسعت قراءاتى وتنوعت مصادر بحثى، لاحظت أن تلك الصورة مبالغ فيها إلى حد بعيد، كما وقفت على بعض الحقائق التى شوهت تلك الصورة المثالية، فكانت غضبتى أكبر، لكن الآن بعد التعرض للكثير من المواقف الحياتية التى وضعتنى فى مواقف مشابهة لما مر به ناصر، أظن أنه من العدل أن أعيد تفكيرى فى هذه الشخصية الوطنية المحيرة، ليس على طريقة «مايعرفش أمه غير اللى يشوف مرات أبوه» لكن على طريقة وضع الأمور فى نصابها الصحيح.
لم يكن ناصر ملاكا، كذلك لم يكن شيطانا، كان تماما مثلما قال الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم «عمل حاجات معجزة.. وحاجات كتير خابت» بما يعنى أنه كان بشرا يصيب ويخطئ، ولم يكن «آخر الأنبياء» كما تعلمنا صغارا، كما لم يكن «أبليس» كما يدعى الإخوان، نعم أخطـأ ناصر حينما مارس ممارسات قمعية وعذب وقتل واعتقل دون محاكمات، وحينما صم آذانه عن سماع آراء المخالفين، وحينما قتل الحياة السياسية فى مصر، لكن هذا لا يمنع أيضا من أن نعترف أنه أسس لمدرسة وطنية فريدة راعى فيها أهم مبدأ من مبادئ تأسيس الحضارة، ألا وهو «الاستقلال الوطنى» منتميا إلى طين هذه الأرض وشعبها وأبنائها، تعثر كثيرا، لكنه تغلب على عثراته تلك، وحول جميع الضربات القاسية التى تلقاها إلى أسس للنهضة التى شهد لها العالم.
أتذكر الآن ناصر بمزيد من الاحترام والإجلال دون أن أنسى أخطاءه الكارثية، لذلك فإنى أؤمن بأنه لا سبيل أمامنا للنهوض إلا بتبنى «أجندة ناصر» متجنبين الوقوع فى أخطائه، ولهذا أمتعض حينما أسمع أنصار جماعة الإخوان وهم يهاجمونه عمال على بطال، برغم أنهم الآن فى مقعد الحكم ويمرون بصعاب أقل كثيرا من تلك التى مر بها «ناصر» ففى عز هزيمة 67 المؤلمة التى استنزفت اقتصاد مصر وأكلت جزءا كبيرا من ثروتها استطاع ناصر أن يكمل بناء السد العالى الذى اختارته الأمم المتحدة كأعظم مشروع هندسى وتنموى فى القرن العشرين، كما تم بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادى وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليارات جنيه، كما استطاعت مصر فى ظل نكسة 67 أن تحافظ على نسبة النمو الاقتصادى، كما كان قبل النكسة بل إن هذه النسبة زادت فى عامى 1969 و1970 وبلغت %8 سنويا، كما استطاع الاقتصاد المصرى عام 1969 أن يحقق زيادة فى فائض الميزان التجارى لأول وآخر مرة فى تاريخ مصر بفائض قدره 46.9 مليون جنيه.
لا أريد هنا أن أذكر محاسن ناصر أو إنجازاته، لكنى اقتصرت المقارنة بينه وبين الإخوان على فترة ما بعد الحرب، فإذا كان الإخوان يتحججون بأنهم تولوا الحكم بعد ثورة، فها هى إنجازات ناصر بعد حرب انهزم فيها الجيش وتبددت موارد الدولة، ولا ننس بالطبع أنه فى تلك السنوات الكارثية التى زاد فيها معدل النمو كان مطالبا بأن يعيد بناء الجيش من جديد وأن يستورد أسلحة بمليارات الجنيهات، وحتى حينما مات بعد كل هذه الأزمات المتتالية ترك لنا مشروعات بـ1400 مليار دولار، كما كان الجنيه المصرى يساوى ثلاثة دولارات ونصف، ويساوى أربعة عشر ريالا سعوديا.
يجبرنى الإخوان بمهاجمتهم الدائمة للتجربة الناصرية على أن أرفع القبعة لناصر رغما عن أكاذيبهم، كما يجبروننى على الاعتذار عن عنوان هذا المقال الذى وضعت فيه نهضة ناصر فى مقارنة مع نهضة مرسى.