د. محمد على يوسف

أمعاء آخر شيخ!!

الأربعاء، 02 يناير 2013 05:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
انطلق المأذون المعمم بدراجته ذات المقعدين، و«قفطانه» يتطاير من خلفه مرددا ألفاظا متقعرة متفاصحة تتعالى على إثرها ضحكات المشاهدين فى قاعة السينما، وهم يتابعون أحداث ذلك الفيلم الفكاهى غير الملون، فى المسرح المقابل كان الممثل المسن بقفطانه الشهير وعمامته الأزهرية التقليدية يقوم بنفس الدور الهزلى الذى يجتذب القهقهات من أعماق المشاهدين. مشهد نمطى متكرر منذ بداية صناعة السينما والمسرح يبعث برسالة غير مباشرة تتسرب بسلاسة إلى الوجدان الجمعى دون تصريح بهجوم أو نقد عينى قد لا يجد قبولا لدى المجتمع المصرى الذى ظل على مدى تاريخه يحترم ويقدر أصحاب هذا السمت. تطور الأمر فيما بعد وصار أكثر وضوحا، لكنه انتقل إلى الربط بين سمت المتسنن بالهدى الظاهر من لحية وقلنسوة و«جلباب»، وبين الإرهاب والتطرف والعصبية الممزوجة بسطحية وجهل، كما هو السياق المطرد فى سينما التسعينيات، وخصوصا أفلام عادل إمام.
ما يفعله الدكتور باسم يوسف اليوم فى تقديرى هو حلقة جديدة من حلقات تلك السلسلة المترابطة، والتى لا ينبغى فصل إحدى حلقاتها عن الأخرى، سلسلة القولبة وغرس الصورة النمطية فى الوعى الجمعى التى يصل بنا مؤداها الحتمى إلى صيحة شبيهة بصيحة «ميرابو» الشهيرة بعد الثورة الفرنسية: «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس». إن السعى الحثيث لتعميم تلك الصورة الذهنية عن الدعاة هو أمر لا يمكن قبوله، خاصة مع الوسيلة التى ينتهجها الدكتور باسم، ربما لو كان نقدا راقيا فى إطار الإنصاف وعدم التعميم وبشكل يحافظ على القيم الدينية والمجتمعية لكان أمرا مقبولا، ولعُد من باب النصح الراقى، لكن العرض المحموم لمقاطع بعضها مبتور عن سياقه ليلقى بإيحاءات إباحية ليست معتادة فى مجتمعاتنا وليس لها أدنى علاقة بفحوى الكلام، هو أمر لا علاقة له بالنقد ولا بالنصح، إنما هو فى رأيى هدم ممنهج يشابه إلى حد لافت ما حدث فى زمان الثورة الفرنسية التى لم تكن فى بداياتها ثورة على الكنيسة كفكرة أو دين لكنها كانت ثورة على ممارسات سلطوية متشابكة بين الكنيسة والإقطاع والسلطة الحاكمة كما أشار هـ.ج.ويلز فى «معالم تاريخ الإنسانية»، بل كان المطلب الرئيسى لها والذى يدركه الفلاحون الذين قاموا بتلك الثورة هو الخبز. لهذا احتاج تلاميذ فولتير وروسو وموليير أن يقوموا بمرحلة وسيطة تتيح لهم غرس تلك الأفكار المتمردة والمعقدة فى عقول أولئك البسطاء من خلال حملة تشويهية لرجال الدين، قادها خطباء الثورة والـممثلون بمسارحهم المتنقلة لعقود أظهروا فيها رجال الدين فى أسوأ وأحط صورة يمكن تخيلها، حتى ذكرت بعض الروايات التاريخية أنه مرت على رجال الدين فى فرنسا فترات لم يتمكنوا فيها من ارتداء زيهم المميز والخروج به خشية السخرية والامتهان. بذلك زالت القداسة أولا، ثم الاحترام والقبول ثانيا، ثم المرجعية بالكلية بعد ذلك!!

ربما كان الاستغلال المتسلط لمعتقد الكهنوت الذى بلغ حد المتاجرة بصكوك الغفران قد استدعى مثل هذا التمرد العنيف، لكنّ ما يعجب له المرء أن يسير البعض فى بلادنا -ربما بغير قصد- على نفس النمط أو ما يشبهه، بينما لا يعرف ديننا كهنوتا ولا قداسة للأشخاص، وإنما يعرف فقط الاحترام وحفظ القدر، وهذا ما نطالب به كما فى الحديث «ليس منا من لم يعرف لعالمنا حقه»، وحقه لا يعنى تقديسه أو عصمته، إنما يعنى احترامه وتوقيره فإن أخطأ أو تجاوز فليكن نصحه والاختلاف معه بأدب، وليس بذلك التسفيه المهين والتعميم الجارح الذى وصل لدرجة جعلت التطاول على الدعاة أمرا مضحكا ومسليا، وأدت إلى إساءات ومهازل لا تُحتمل ولا يتسع المقام لذكرها ما أجد لها سببا إلا هذا التشجيع الممنهج على السخرية، وعلى إذابة أى قدر متبقٍ من الاحترام فى نفوس الناس لورثة الأنبياء. قد يظن البعض أن كلامى يحمل مبالغة أو تضخيما للأمر، لكنها رؤية تحليلية ومآل أراه للأسف حتميا لعشرات الشواهد التى لمستها بعد برنامج «البرنامج»، الذى يصر على جعل أهل العلم والدعوة وليمة لحفله الأسبوعى! وكأنما نضبت كل وسائل النصح والنقد البناء ولم تتبق إلا التلميحات الجنسية والاستهزاء الهدام!

فهل سيصل بنا الأمر فى النهاية إلى شعار قريب مما صدرت به للمقال؟! أتمنى ألا يحدث ذلك وللحديث بقية إن شاء الله.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة