فى الخميس، 26 يوليو 2012، كتبت مقالا بعنوان «الزبالة.. كمكون ثقافى» ووقتها اندهش البعض من تلك الرؤية وهذا الطرح، ولهم العذر تماماً، فقد تعودنا على أن نطلق مصطلح «ثقافة» على بعض الممارسات الإبداعية والفنية فحسب، وقد أدى هذا من وجهة نظرى إلى انحسار موجة الثقافة العامة واقتصارها على فئة المفكرين والكتاب والمبدعين، وقد صارت هذه الفئة نتيجة ممارساتنا الثقافية الفاسدة فى انعزال تام عن المجتمع.
شيئاً فشيئاً أصبح صناع الثقافة هم فقط مستهلكوها، ولأن وعى هذه الفئة بالفنيات الإبداعية كان أكثر خبرة من وعى القاعدة الجماهيرية العريضة صارت الأعمال الإبداعية فى سباق مع بعضها البعض، وسرعان ما صار السباق جنونيا، فتطور الأدب والمسرح والشعر بشكل مفارق لوعى القاعدة الجماهيرية العريضة، وساهم هذا فى زيادة ابتعاد الناس عن الإبداع الحقيقى وزيادة غربة المبدعين عن متلقى الإبداع، ثم جاء انتقام الجمهور كأشرس ما يكون حينما أتيحت له فرصة الانتقام، فمنح بعض أنصاف المبدعين اهتمامه الجم، لأنهم يخاطبونه ويداعبونه ويهدهدونه ويتصالحون مع وعيه وذائقته وميوله، أما بقية شعب مصر من إخواننا المحرومين من روح الثقافة وريحها فقد كان انتقامهم أشد وأشرس، حينما منحوا بعض أرباب الجهل ومدعى التدين أصواتهم فى العديد من الجولات الانتخابية السابقة، وهكذا كاد أن يعصف «المثقفون» بأنفسهم ليتجرعوا ويلات التعالى على الشعب الذى أتى على رأس حكم مصر من كان ينوى القضاء على البقية الباقية من ثقافة.
الثقافة من وجهة نظرى هى علم بناء الإنسان، ولذلك فإنى لا أعول كثيراً على وزارة الثقافة، لأنها لن تفعل شيئا يذكر طالما أن «الثقافة» ليست على رأس أولويات الدولة، ولا تحسب أننى أبالغ إذا قلت إن مشكلات الدولة المصرية لن تحل إلا بالثقافة، وهى الكفيلة وحدها بالقضاء على الإرهاب وتنمية السياحة وتجييش الشعوب من أجل الأهداف السامية، وزيادة النمو الاقتصادى، وكما يقول عالم الاجتماع الشهير ماثيو أرنولد، فإن الثقافة هى دراسة الكمال والتى من شأنها أن تقود إلى كمال متناسق بتطويرها لكل جوانب إنسانيتنا ثم إلى كمال عام بتطويرها لكل أجزاء المجتمع، ولذلك لا أرى طائلا يذكر من عمل استراتيجية ثقافية بعيدة المدى، دون أن نعيد ترسيم حدود الثقافة فى مصر، بحيث تشمل كل مناحى الحياة وجميع المنتوجات الثقافية للمصريين كشعب، وليس للمثقفين كـ«نخب» دون أن يكون فى هذا تعارض مع ذاك.
وليس هناك من مفر أيضاً من إعادة ترسيم حدود الثقافة، لتصبح وزارة الثقافة «وزارة استراتيجية» ترصد ثقافات الشعب، وتدرس ميوله واتجاهاته وآليات تلقيه، وتعمل على الارتقاء به، وبالطبع مهمة كهذه تتطلب عمل العديد من «المراجعات الثقافية» لندرس بعين النقد الموضوعى تلك الكتابات المؤسسة التى هيمنت على الجماعة الثقافية على مدى عقود عديدة، إذ ليس من المعقول أن نجلد الشعب كل يوم ونتهمه بالقصور والتدنى ونعيب عليه تدنى مستواه الحضارى، دون أن نشك ولو للحظة فى أن «العيب فينا».
الخلاصة لم تستطع الدولة المصرية أن تنشئ عقدا اجتماعيا ثقافيا جديدا، وعليه فإننى لا أستبعد مطلقا أن نتدهور كثيراً عما كنا، وأن نظل فى تلك الدائرة المغلقة الخاوية، ومهمة الدولة أن تعيد ترسيم حدود «الثقافة»، لتشمل كل مناحى الحياة، بالشكل الذى يجعل المواطن المصرى مثقفا، عن طريق محاصرته بالجمال والكمال من كل حدب وصوب، لنتخلص إلى الأبد من «الزبالة كمكون ثقافى».