لا نعرف لماذا يبدو البعض متعجلاً على كتابة التاريخ، وتسجيل أهداف فى مرمى الآخرين، ويمارس البعض هواية اليقين باحتراف فى وقت يجب فيه طرح الأسئلة الصحيحة، ومن شهور لم يتوقف البعض عن التنظير للواقع بنظريات منقولة من آخرين دول وأنظمة أو تقديم اجتهادات نظرية عن الثورات على أنها نتائج نهائية لا تحتمل الخطأ والصواب.
ويفضل البعض تبنى رؤية واحدة أو شهادة واحدة فقط، متجاهلاً أن هناك آخرين يقولون ما قد يختلف أو يتفق معها، نتحدث عن الشفافية بمفهوم مزدوج، وكلما خرج مسؤول سابق ليقدم شهادته يتعامل البعض مع الأمر على أنه جزء من مؤامرة، أو يتركون الموضوع ليبدأوا فى مهاجمة التوقيت والربط بين ما قيل وما يجب أن يقال، وكثيرا ما يتحول البعض إلى «مسامير نتاشة» فى مواجهة كل ما يمر أمامهم، ويتصورون أنهم يمكن أن يسرقوا التاريخ، ولا يعرف الذين يكذبون على الآخرين أنهم يمكن أن يكونوا ضحايا الكذب.
الكل يتحدث عن الإقصاء وعدم الإقصاء، لكن كل واحد لديه تصوره الخاص عن الإقصاء، فهو مع إقصاء من يرفضهم، لكنه ضد إقصاء من يرضى عنهم، وخلال الفترة من يناير 2011 حتى اليوم جرت مياه كثيرة.
انفتح الباب للفتاوى والأحكام التى كان بعضها مجرد شهادات من طرف واحد تحتاج إلى تحقيق وتدقيق، كان البعض يطالب بمحاكمة، وهو يطلب حكما بالإدانة لمبارك ورجاله ووزرائه، بينما المحاكمة تعنى التحقيق وبحث الأدلة والاستماع للشهود، وفى النهاية الحكم. الذى يحتمل البراءة والإدانة.
فى الطريق كان هناك حكايات وقصص يقدمها شهود، بعضهم شارك فى السلطة وبعضهم صمت طويلا، كانت كلها مجرد شهادات، لكن البعض اتخذها أحكاما نهائية، والنتيجة أننا فقدنا فرصة فهم ما كان يجرى، وانشغلنا بغريزة النميمة والحكايات التى كانت تأخذ العاطل بالباطل، ويحرص رواتها على أن يضمنوها أعلى درجات التشويق والإثارة، بحق أو باطل.
وكان هؤلاء الذين تعاملوا مع الشهادات على أنها حقائق، انتقلوا إلى موضوع للاتهامات والحكايات الجديدة، وأصبح من وضعوا أنفسهم فى موقع القضاة، يطالبون بعدل لم يمنحوه لخصومهم، وتعرضوا لما كانوا يعتبرونه حقائق، ورأينا من عين نفسه مدعيا وقاضياً ليحاكم خصمه، يقف متهما بما يشبه اتهاماته لخصمه.
قلنا مرات، إن الحق يجب أن يكون فوق القوة والسلطة، وإن القانون يجب أن يكون قواعد عامة مجردة لا تعرف الأسماء وتحاكم الأفعال، وإن هناك فرقا بين الشهادة والحكم، فالشاهد واحد من كثيرين، بينما المحكمة تصدر حكما يحتمل الاستئناف والنقض.
شهور طويلة وكل طرف يصور ويعرض بكاميرا واحدة، بينما الحقيقة تحتاج إلى خمس أو ست كاميرات. وأن دور المحاكمة غير دور التاريخ، الذى لن يكتب الآن، وكل ما نملكه أن نقدم للتاريخ شهادات عديدة، قد تحتمل الصدق أو الكذب. لكن الأهم أن نتخلى عن دور القاضى، ونعترف أننا شهود، مع الاعتراف بأن الشهود أحد عوامل الإدانة.