هذه المرة جاء بعدى إلى المقهى وألقى صحفه القديمة بيننا وتنهد مغمضا عينيه وقال فى أسف: كل هذا الدم بالمجان!
قلت له: مصر تتحدث عن نفسها يا عزيزى.
سألنى فى غيظ لم أعرفه عنه أبدا بهذه الحدة من قبل: وماذا كانت تفعل فى 25 يناير 2011.
- كانت تتحدث عن نفسها حديثا جديدا هو حديث الثورة الدائمة.
ضحك ساخرا وقال: الثورة الدائمة؟ طبعا تروتسكى قديم. ماذا ستقول غير ذلك؟ لماذا لا تقول ضاع العقل من البلاد؟
- بالعكس مصر الآن تتحدث عن نفسها أكثر من أى وقت، ثم إننى لم أكن «تروتسكى» أبدا وأنت تعرف. حين قبضوا على زمان وجدوا عندى كتاب إسحق دويتشر عن تروتسكى فضمونى للتروتسكيين. خرجت أحب تروتسكى. أديب ساهم فى صياغة البيان السيريالى مع أندريه بريتون وصحفى وناقد فنى. باختصار كمجنون. لكن لماذا أنت فى غيظ شديد اليوم. هون عليك.
- لماذا يخرج هؤلاء الناس فى مظاهرات حتى الآن. لماذا لا يفكر أحد فى أن الإخوان المسلمين الذين يدافعون عنهم خذلوا الثورة وغرروا بشبابها واتفقوا سرا وعلنا مع أطراف الدولة القديمة على الثوار الذين أوصلوهم للحكم ببراءة لم تعرفها الثورات تحت اسم الليبرالية مرة وتحت اسم الإخوان فصيل وطنى مرة وتحت اسم محاربة النظام السابق مرة. لقد أمضى مرسى عاما كاملا، كل ما فعله فيه أنه عزز من وزارة الداخلية واستورد لها الغالى والرخيص من الأسلحة وأطلقها على الثوار، فمات أكثر من مائة وسجن أكثر من ألفين وحضرته قال: إن هذه ثورة ومش مشكلة لما يموت مليون أو أكثر من أجل الاستمرار وحضرته تمسك برئيس وزراء أقصى ما يمكن أن يفعله أن توضع صورته على بزازات الأطفال، ونائب عام اشتغل على الثوار وترك أهله وعشيرته يضربون ويقتلون الناس فى الاتحادية والمقطم و.. و...
قاطعته ضاحكا: انتظر. لا تحكى لى شيئا أعرفه.
-سوف أجن يا أخى. لماذا لا يسأل هذا الشباب الذى يتظاهر كل يوم فى الشوارع والجامعات نفسه، ماذا لو كان مرسى وافق على ما يريده الشعب وترك الحكم من أجل انتخابات مبكرة، واستغنى عن رئيس وزرائه ونائبه العام، ووافق على تعديل الدستور. أما كنا سنستمر فى العملية الديمقراطية التى بدأناها وأتت بمرسى، وكان يمكن أن تأتى به مرة أخرى أو تأتى بغيره، لكن المهم أن تستمر العملية الديمقراطية بدلا من تنشيف الدماغ وإدخال البلاد فى كل هذا الاضطراب، والأهم ما يقولون إنه يحدث الآن أو سيحدث مستقبلا بشكل أكبر، وهو استدعاء الدولة الأمنية القديمة. لماذا لا يسأل هذا الشباب نفسه أن الذى استدعى ويستدعى الدولة الأمنية الآن ومن قبل هو مرسى وهو ما تفعلونه، وأنتم رفضتم العملية الديمقراطية، ووصل رئيسكم إلى الحكم وحلف ما يمشى كأنه ورثه. الدولة الأمنية التى تقولون إنها عادت ما كانت ستعود لولا أعمالكم وأعمال مرسى قبلكم، وهو الذى قوّاها وجهزها بكل الأسلحة. هو الذى بعد أن أوصلته الثورة إلى الحكم. خطأ أو صوابا مش مهم، هو الذى ترك الثورة وراح يتحالف مع النظام القديم؟ تواطأ فى القصاص لدم الشهداء ولم يحقق عدالة انتقالية، واعتبر أنه وضع الجيش والشرطة فى جيبه ولم يفهم هذا الأحمق أبدا أن دولة عميقة على عداوة مع الإخوان عبر التاريخ لن تستجيب لهم فى يوم وليلة ولا فى سنة ولا فى سنتين. مؤسسات مثل الجيش والبوليس لا يمكن أن تخترقها بأعضاء من الإخوان يا مرسى، وإذا فعلت ذلك سيكون شخصا أو اثنين يمكن اكتشافهما وستنقلب عليك هذه الدولة فى أول فرصة، وأنت أحضرت الفرص بنفسك حين تركت الشعب يصرخ وجلست تأكل العقيقة مع البلهاء فى قصر الاتحادية مطمئنا. المطمئن يا مرسى هو من يحكم فيعدل وليس من يضرب بعرض الحائط كل أسس العدل، ويشرع فى قتل من أوصلوه إلى الحكم وتعذيبهم. هل لم يصله المشهد الذى سيظل عارا إلى الأبد له، وهو مشهد أم محمد الجندى وهى تضرب نفسها بالحذاء ألما على ابنها الجميل وعلى نفسها. وهما وغيرهما أعطيا أصواتهم لمرسى فقتل أبناءهم. وحتى لو كان وصله. لم يكن سيتأثر. حقا ما قلته لى من قبل أن هؤلاء الإخوان طائفة سياسية ركبت حصان الدين، أسرع حصان عند الشعوب لتصل به إلى الحكم. بينما هم كفار لا يرون نعمة الله التى هى الثورة وهم عميان لا يرون خارج الطائفة أحدا. و... أنا تعبت.
وسكت وبدا عليه اليأس حقا. ضحكت. قلت:
- لقد أتيت اليوم عازما على ألا تعطينى أى فرصة للحديث، ولقد سمعتك. هل لديك شىء آخر؟
- قل لى ماذا يمكن أن يحدث فى الأيام القادمة.
- جرحى وقتلى كثيرون ياصديقى، ليس بسبب خروج الإخوان فقط فى مظاهرات، ولكن بسبب انضمام بعض قوى الثورة إليهم مثل الاشتراكيين الثوريين وبعض الليبراليين بينما بقية الشعب لا يفرق بينهم ومن ثم لن تفرق الدولة الأمنية كما تقول ويقولون.
- وما العمل؟
- تانى شيوعية. بس لينين المرة دى. ماشى ياعم. يا أخى احنا حفظنا كتاب ما العمل دا زمان ونسيناه.
وضحكت وضحك هو فى أسف. فى الحقيقة تأثرت من أجله. لم يعد فى أحسن حالاته. سألنى.
- هل سيخرجون فى الأيام القادمة؟فى العيد مثلا. هذه أيام خير وعمل. كل شارع سيمرون فيه لن يتركهم أصحاب المحال على الأقل.
- يا عزيزى لقد خرجوا فى يوم الوطنية المصرية. يوم 6 أكتوبر. الذين لم يعرفوا معنى الوطنية هل سيقفون عند مناسبة دينية. ولا تنسى أنهم يعتبرون كل المناسبات الدينية صنعت خصيصا لهم. هم المؤمنون ونحن الكفار يا صديقى العجوز.
ضحك وقال: وكأنك لست كذلك. فكر معى فى طريقة لحقن الدماء.
-للأسف لا أمل. فيهم ولا معهم. لكنى سأنشر كلامك وأسئلتك لعل وعسى أحدا يعود إلى الصواب. على الأقل حتى لا تقوى الدولة الأمنية!!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة