جنسان لهما طبيعتان متناقضتان بالكلية.. مخلوقات نورانية معصومة لا تقترف خطيئة ولا تعصى ربها طرفة عين ولا تنقطع عن عبادته والتبتل إليه لحظة من لحظات عمرها وأخرى تستمرئ الفجور وتدمن الضلال والإضلال وتكرس حيواتها الطويلة لغواية بنى عدوها الذين حملتهم مسؤولية خطيئتها وتمردها وعصيانها الذى أدى بعد ذلك إلى طردها من مكانتها السالفة.
ثنائية معروفة لا تخفى على أحد، وضدان متمايزان لا يختلطان على عقل.. إنها ثنائية الهدى المطلق والضلالة السافرة.. ثنائية الطاعة والمعصية والخير والشر.. ثنائية الملائكة والشياطين.
تلك الثنائية التى لم تغادر أذهان كثير من الناس عند تعاملهم فيما بينهم، خصوصا فى أوقات الاستقطاب العنيف والانقسام المجتمعى المتطرف الذى ينمى بشدة تلك النزعة، ويجعلها السمة الغالبة على تفكير الكثيرين، مما يؤدى إلى غياب موضوعية التقييم وتخافت صوت العقل والإنصاف وبزوغ الغلو فى الرؤى والأحكام سلبا أو إيجابا، وذلك يعد فى رأيى من أهم مشاكل المراحل الساخنة التى تكتظ بالمنحنيات الحادة والأحداث المفصلية القاسية، فما بين شيطنة كاملة، وافتراض ملائكية مفرطة يتناسى معهما كثير من الخلق حقيقة أن الإنسان مخلوق أكثر تعقيدا من تلك الثنائية الحادة التى تتبدى أثناء احتدام الصراع، وأن تعقيد التركيبة البشرية يستلزم عدم شرطية العصمة والتنزيه الكامل عند من هم أقرب إلى الحق من وجهة نظره، ويستلزم كذلك عدم ضرورة كون عدوه أو خصمه رجيما ملعونا، يقضى الليل والنهار فى المؤامرات الكونية والطقوس الشيطانية الماسونية التى تناسب الصورة النمطية القبيحة المستقرة فى ذهنه.
والحقيقة البسيطة والمعلومة أن المجموعات البشرية غير المعصومة تحمل فى داخلها عيوبا ومزايا وتحدث أثناء سيرها أخطاء وتصحيحات ومقتضى البشرية وجود النجدين «وهديناه النجدين»، ولازم الإنسانية إلهام الفجور والتقوى «فألهمها فجورها وتقواها»، وليس معنى غلبة التزكية ومظنة الفلاح أن الخطأ لم يقع أحيانا، كما أنه ليس معنى غلبة الباطل على ابن آدم خلو فعله من أى صواب. لكن للأسف حين يطغى الصراع ويعلو دوى المعركة الصاخب ويتطاير الغبار فى كل مكان تتغير ألوان الأشياء ويسعى أحاديو الرؤى لأن يطمسوا الحقائق ويصبغوا كل شىء بلون رؤيتهم وانحيازهم ويكتموا أو يخفتوا أى صوت ينادى ببقاء حقيقة الأشياء، حينئذ تصير أخطاء الأقربين هى روائع الحكمة، وتصبح زلاتهم منتهى الصواب والذكاء، ويتم تعليق كل فشل أو خلل على شماعة الخصوم الشيطانيين وحدهم وتكاد المسؤولية والإحساس بها أن تتلاشى تماما من نفوس أولئك المتعصبين. ومن هنا يزور التاريخ بعد أن طُمس الواقع بشعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، ويتحول الخلق فقط إلى ملائكة أو شياطين ويتناسى البشر أنهم فى النهاية بشر ولو كانوا للحق أقرب.. وإن كانت طبائع احتدام المعارك الفكرية والواقعية تقتضى أحيانا تأجيل بعض النقد لأسباب تتعلق بالمروءة والأخلاق فإنها لا تغير للأبد حقيقة أن البشر يخطئون وأن الأزمات، والابتلاءات، وعدالة القضايا، وسلامة المقاصد لا تغير طبائع الأشياء، ولا مسمياتها ولا ألوانها ولا تسبغ عصمة على بنى آدم «الخطائين» وأن المبادئ لا تتلون ولا تتجزأ بلون الأهواء والانحيازات.. على العقلاء دوما أن يتذكروا هذا ويحتفظوا به فى خزائن موضوعيتهم المُؤَمَّنة بأقفال الإنصاف ومتاريس حراسة المفاهيم ورعاية الحقائق ثم يخرجونه حين يأتى الوقت المناسب حتى لا يُنسى أو يطمسه غبار المعركة ويتحول التاريخ تدريجيا إلى تلك الثنائية التى لا علاقة لها بالطبيعة البشرية المعقدة.. ثنائية الملائكة والشياطين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة