هذا هو العبث الحقيقى، ثورتان، آلاف الشهداء والمصابين، مليارات الدولارات التى استنزفت من الاحتياطى النقدى المصرى، وشعب يلهث كل يوم فى ظل إجراءات أمنية مشددة وحظر تجوال، وأسعار تلتهب كل يوم ولا تجد قطرة مياه من الحكومة لتطفئ لهيبها، وحدود تعانى من تكالب الجرذان عليها، وسلاح فى كل شبر فى مصر يأتى برعاية جماعات الإرهاب الأسود، وأحداث طائفية تصيب كبد الوطن وقلبه مودية بحياة أطفال لم يتلوثوا بعد، وصراعات وخناقات كل يوم فى الشوارع والميادين، كل هذه الأزمات والشعب صامد، كل هذه الخلافات والشعب صامت، كل هذه الاحتقانات والشعب صابر، لعله يجد فى الدولة الجديدة أملا، لعله يجد فى الدستور الجديد نصيبا، ولعله يجد فى آخر النفق جرعة هواء أو خيط ضياء، ويؤسفنى أن أقول إن المقدمات الحالية، لا تؤدى إلى نتائج مرضية فى المستقبل، كما يؤسفنى أن أقول إن لجنة الخمسين التى تتولى الآن الإعداد لدستور مصر أقل كثيرا من أحلام الناس وطموحاتهم فى وطن عادل.
حتى الآن، فإن لجنة الخمسين التى استبشرنا بها خيرا، لم تقم بالدور الذى من المفترض أن تقوم به، وهى، للأسف، لا تتعامل بمنطق إيجابى ولا تضع فى اعتباراتها أنها تعد دستورا لمصر، وإنما تشير الدلائل الآن وقد اقتربت اللجنة من إنهاء أعمالها وصياغة موادها إلى أنها ذاهبة فى طريق «اللى يروح ميرجعش» لأنها حتى الآن لم تتجرد من انتماءات أعضائها الفكرية والسياسية ولم تستطع أن تخرج نفسها من الظروف الحالية الضيقة لتضع دستورا لمصر يدوم إلى أبد الدهر، لكنها تعمل وفق أسلوب «المراعاة» الذى يفترض أنه من الممكن أن «نراضى» كل هيئة أو مؤسسة بنص دستورى يحصنها أو يحفظ حقوقها، فكان طبيعيا وفق هذا المنطق أن تطالب كل مؤسسة بنصيب الأسد فى المواد الدستورية، فأعضاء هيئة قضايا الدولة يريدون المساواة بالقضاة فى حين أنهم ليسوا أكثر من «محامى الحكومة» أى أنهم مثلهم مثل المحامين العاديين، وأعضاء النيابة الإدارية يريدون أن يصبحوا مثل القضاة تماما، وبالطبع فإن المحامين العاديين يريدون أن يتحصنوا من القضاة، أما القضاة فيريدون أن يصبحوا فى أبراج عاجية لا تطولهم يد المحاسبة ولا يجرؤ أحد على توجيه أى اتهام لهم، وهكذا يصبح دستور الشعب، هو دستور التحصين من الشعب.
وفى ظروف كهذى، ووفق سياسة الأيادى المرتعشة، صار طبيعيا أن نسمع عن أن هناك نية لتمييز أهالى المحافظات الحدودية عن بقية الشعب المصرى، دون أن ندرى أن محاولة تمييز أهالى أى منطقة أو إقليم هى محاولة للتمييز ضدهم، وصار طبيعيا أيضا أن نسمع أن هناك محاولة لتحصين «شخص» أو «هيئة» أو «مؤسسة» كما لو كان هذا الدستور «مولد وصاحبه غايب وكل واحد يلحق له نايب» فيا سادة، يا أيها القائمون على كتابة الدستور، ضعوا نصب أعينكم أنكم تكتبون دستور مصر، وأن هذا الدستور لا يجوز أن يفرق بين المواطنين، وأن مؤسسات الدولة لها قوانين تنظم عملها، وأنكم ترتكبون جريمة كبرى برغبتكم أن تحل مواد الدستور محل القوانين، فمنطق عمل الدساتير أن تكون جامعة مانعة، وأن تصون روح مصر وهويتها الشاملة، وأن تكون مواده مجردة عن أى هوى ومنزهة عن أى غرض، وأن الدستور شىء والقانون شىء آخر، وأنكم بمثل هذا الوعى المشوه تهدون أعداء الوطن فى الداخل والخارج أثمن الهدايا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة