نحن نعيش حمى تجتاج الأجواء والأوساط من حولنا، يصعب فيها التفرقة بين نظريات الثورة والمؤامرة ونظريات الطبخ، أو بين خطط المربعات. وهى نظريات تولد الكثير من الأفكار والتهاويم التى يختلط فيها الواقع بالخيال.
ولو أخذ المواطن المشاهد كل ما يقال من تحاليل ونظريات على محمل الجد، فسوف تصيبه حالة من التلبك والكعبلة النظرية والعملية، أو هى بالفعل أصابت الكثير من الناس، وجعلتهم يضربون أخماسا فى أسداس، وأرباعا فى أثلاث.
و خلال ثلاثة أعوام تحول بعض كبار النشطاء إلى ثوريين ثم آباء وأمهات وأعمام وأخوال للثورة. ثم احترفوا مهنة التحليل مع الثورة، والتنظير مع البرمجة، وأصبحنا أمام هجوم من محللين وخبراء فى شؤون الثورات، كل هذا لمجرد أنهم نموا وترعرعوا أمام كاميرات الإعلام، ولا مانع لو كان هؤلاء يعترفون بحداثة عهدهم بالسياسة، ونقص معارفهم فى أعماق «العمائق»، لكن بعض هؤلاء انتفخت ذواتهم، وتضخمت غددهم الثورية، وأصبحوا يرون أنفسهم الثورة وغيرهم الفلول. وعليه فقد أصبحنا أمام زعماء يحددون للناس الصح والخطأ، والموافقة والرفض. من دون أى نوع من التواضع أو الاعتراف بأنهم بشر، يمكن أن يخطئوا. وترى الواحد منهم، نما وترعرع فى الإعلام وأمام كاميرات الفضائيات، ومع هذا يلسن على الإعلام ويتهمه بالانحياز، وتراه يقدم نظرياته فى الإعلام. وطبعا فالإعلام ليس شيطانا ولا ملاكا، وفيه الطيب والشرير. وله أخطاؤه، ومنها بالطبع تلميع بعض من هب ودب ومنهم بعض كبار المحتكرين للثورة.
ومن بين آباء الثورة المزعومين، من أصابته حالة الاختلال الثورية بنوع من الغيرة، وعين نفسه ثوريا وحيدا، يحكم على الآخرين ويحدد من هو الثورى ومن هو الذى خارج نطاق الثورة. وهى ظاهرة نمت بعد ثورة يناير وسط مرحلة انتقالية مرتبكة، كان فيها التجريب والمناورات على أشدها، لكن حالتهم الثورية تدهورت بعد 30 يونيو، لأنهم شعروا أن الأضواء انسحبت عنهم، فطفقوا يبلبلون، فى محاولة للاحتفاظ باحتكارهم للثورية.
ورأينا من يعتبر كل من يختلف معه منتميا للنظام السابق والأسبق، أو يسعى للبقاء فى منطقة ترضى كل الأطراف، بحثا عن مكسب انتخابى أو موقع سياسى. والحقيقة أن ظاهرة الثورى الاحتكارى، ظهرت بعد يناير، وأصابت ما بعد يونيو، ورأينا مصطلحات مثل «الينايرجية، واليونيوجية، والدولجية والأمنجية»، وهى مصطلحات يريد بعض المحتكرين أن يصف بها خصومه والمختلفين معه، بينما الثورة نفسها لا أحد يتوقف ليفكر فيها، أو يفكر فى الشعب الذى أصابته الحيرة، وكاد يكفر بكل هؤلاء المدعين، الذين لم يعتبروا الثورة وسيلة للتغيير نحو الأفضل، وليست مجرد شارة توضع على الجيوب. وأنها ليست حكرا على تيار أو جماعة أو فرد.
والنتيجة أننا نرى كلاما وجدلا نخبويا، لايصل إلى الناس، ويختفى السادة الزعماء والسياسيون، ويكتفون بالكثير من اللت والعجن، والتنافس على تجميع الألقاب. والواحد منهم لايغادر «فضائيته، أو فيس بوكه»، ويصر على أن يتكلم أكثر مما يعمل. ويسعى لهزيمة الآخرين أكثر مما يحرص على الانتصار.