«واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا».. مكانة عظيمة هى ووصف مهيب وتزكية ربانية لا تدانيها تزكية مخلوق أو مدح فانٍ.. بذلك الوصف وتلك التزكية افتتح الله تلك القصة المهمة من قصص القرآن والتى هى رغم قصرها تحمل من المعانى والفوائد الشىء الكثير، الوصف والتزكية قيل إنهما فى حق عالم كان مع القوم الجبارين الذين سكنوا الأرض المقدسة فى الفترة التى أُمر بنو إسرائيل بدخولها، ولقد روى أن صاحب الوصف كان من العلماء الربانيين أطلعه الله على اسمه الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب، وإذا سُئل به أعطى، لكن ثمة كلمات قرآنية معدودة كانت تفصل بين هذا الوصف الشريف وتلك التزكية العظيمة وبين النقيض تماما فبعد أن كان الوصف شريفا والتزكية ظاهرة تحول إلى وصف آخر وضيع وصار مثله كمثل كلب يسيل اللعاب النجس من بين شدقيه، وبعد أن كان كريما عالى الدرجات بعلمه صارت الغواية نعته والانسلاخ حاله والخزى مآله. ذلك لأنه غيَّر وبدَّل ولم يرع للنعمة حقها ولم يعرف للعلم مقامه ولا للآيات التى فى صدره قدرها ففرط فيها واختار أن يخلد إلى الأرض ويتقلب فى ترابها الحقير ويلهث خلف شهواتها الدنيئة.
ورد عن ابن عباس أن هذا الرجل المسمى بـ«بلعام بن باعوراء» قد أغراه قومه ليستعمل علمه الذى آتاه الله إياه فى صدّ موسى وقومه عن دخول الأرض المقدسة، والرجل عالم ومدرك بوضوح أن موسى عليه السلام نبى مكلم وأنه على الحق. لكنه سقط فى الفخ وضعف أمام إغراءات الجبارين، وقرر أن يستعمل علمه فى صدِّ الحق والترسيخ للباطل بل والأدهى أنه أقدم على دعاء الله بأن ينهزم نبيه وأتباعه وأن يولوا الأدبار أمام القوم الجبارين. ولقد ورد فى الأثر أنه فشل فى مسعاه وكلما حاول أن يدعو على موسى صرف الله لسانه فدعا لموسى وقومه، وكلما دعا لقومه الجبارين صرف الله لسانه فدعا على قومه. لكنه لم يستسلم ولجأ إلى الحيلة والخديعة واستعمل علمه ومكره فقال لقومه أطلقوا عليهم نساءكم مزينات يراودن الجند عن أنفسهم فلئن فشت فى جيش موسى الفاحشة لن ينصرهم الله.. وقد كان.
وبالفعل وقع كثير من بنى إسرائيل فى المحظور واستحبوا شهوة الدنيا العاجلة، وأبوا أن يطيعوا أمر ربهم ونبيهم ثم قالوا كلمتهم الشهيرة: إنا ها هنا قاعدون فكتب عليهم التيه كما فى القصة المعروفة التى ليست هى موضوعنا، لكن ما يعنينى فى تلك السطور هو ذلك العالم الفاسد الذى كان من الممكن أن يظل من أرفع الناس شأنا فإن الله يرفع بآياته أقواما ويضع بها آخرين كما ثبت عن الصادق الأمين لكنه أبى إلا التدنى والتقلب فى دركات الوحل، إنه مثال من أخطر أمثلة القرآن الكريم، ذلك بأن الجاهل قد يعذر بجهله إن زل أو ضل، لكن أن يتخلى العالم عما أوتى من الفضل ويتنكر لما حباه به ربه من العلم فتلك هى المصيبة التى يتناسب معها ثقل المثال والتشبيه.
إن عظم المكانة والدرجة يستلزم بالضرورة تعاظم المسؤولية والتكليف، ولئن تخلى العالم عن تلك المسؤولية فمن يقم بها إذن، وكيف إن لم يتخل فقط ولكن ضل وأضل غيره واستعمل علمه فى تزيين الباطل وترسيخ أركانه؟! وسواء صح الأثر فى أن هذه الآيات من سورة الأعراف فى شأن «بلعام» ذلك العالم المنتكس تحديدا أو أنها على إطلاقها فإنها تظل نموذجا لكل من آتاه الله علما وأكرمه بآياته فنأى عنها وأعرض واستبدلها بعرض زائل فصار فى النهاية مجرد كلب يلهث.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة