عند السلفيين تحولت متون أحمد بن حنبل وأحمد بن تيمية وابن القيم والألبانى وغيرهم إلى نصوص مقدسة، يتم الاستناد إليها فى كل الأحوال، حتى وصل الأمر إلى الاكتفاء بها وإهمال أصل الأصول وسيد المصادر، وهو القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. ولعل من يتابع مواعظ وأحاديث قيادات السلفيين أى «أئمتهم» فى المرحلة الحالية كبرهامى ومخيون وغيرهما، يجد ترديدا لما توصل إليه أولئك السلف بغير أى إعمال للعقل أو إفراغ للوسع للمواءمة بين ما جرى من متغيرات فى أحوال المجتمع وبين ما تضمنته أقوال وفتاوى ابن حنبل وابن تيمية والآخرين. وكذلك هو الحال عند الإخوان المسلمين الذين صارت لديهم حالة من حالات التوحد المرضى من المرض بنصوص حسن البنا وسيد قطب من بعده، حتى كاد الأمر يصبح عبادة لنص البنا وقطب من دون الله سبحانه وتعالى.. والعياذ بالله.
ولقد بقى البعض أو ربما الغالبية من المراقبين للشأن الإخوانى يميزون بين تراث حسن البنا، باعتباره الأصل الوسطى المعتدل الجامع المانع الشامل، وبين ما طرأ من إضافات جاءت مع سيد قطب بشكل رئيسى، واقترن التطرف والتشدد والغلو باسم قطب عند أولئك البعض، بل إن بعض المنتسبين تاريخيا للإخوان وممن يتسمون بالعقلية الناقدة الواعية لما حدث من متغيرات مثل الأستاذين الدكتورين صلاح عبدالمتعال، وكمال الهلباوى دائما ما يؤكدون أن ما نعاصره الآن ومنذ فترة من شخوص وأفعال إخوانية لا تنتسب لمنهج ورؤية حسن البنا، بل هى تنتمى أكثر إلى منهج ورؤية سيد قطب ومن شرب من مشربه!
ولما كنا فى هذه السطور، وما سبقها فى المقال الذى نشر الأسبوع الفائت بصدد محاولة تقصى وتبين جذور رؤية الإخوان والسلفيين للآخر من غير المسلمين وأيضا من المسلمين، ولكن من مذهب آخر أو مشرب مختلف، فإننى سأحاول اليوم تقصى موقف حسن البنا من غير المسلمين أى اليهود والمسيحيين، وأيضا من «أقليات» أخرى كالمرأة على سبيل المثال.
فى رسالة الجهاد يقدم حسن البنا نماذج لأحاديث نبوية شريفة تتصل بالجهاد فى سبيل الله، وعند رقم 15 فى تلك الرسالة، نقرأ ما يلى نصا وأنا هنا أنقل بالنص: وعن عبدالخير بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه، عن جده قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهى منتقبة تسأل عن ابن لها قتل فى سبيل الله تعالى، فقال لها بعض أصحابه: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟ فقالت: أن أرزأ ابنى فلن أرزأ حيائى، فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم: «ابنك له أجر شهيدين» قالت ولم؟ قال: «لأنه قتله أهل الكتاب» وأخرجه أبوداود، الحديث واضح ومحدد الألفاظ وفيه ينسب للرسول صلوات الله عليه، أن من يقتله أهل الكتاب ينال أجر شهيدين، ورغم أننى لم أدقق وراء حسن البنا فى مدى صحة الحديث ومدى الثقة فى روايته والدقة فى عنعنته، إلا أن الأمر يمكن أن يمر شأن أمور كثيرة، غير أننى فوجئت مفاجأة هائلة ومذهلة لما قرأته بعد أن انتهى نص الحديث، لأن حسن البنا، غفر الله له ولنا، مضى بجرأة مخيفة ليضيف من عنده النص التالى بالحرف الواحد: «وفى هذا الحديث إشارة إلى وجوب قتال أهل الكتاب وأن الله يضاعف أجر من قتلهم فليس القتل للمشركين فقط ولكنه لكل من لم يسلم»، انتهى كلام حسن البنا الذى أراد أن يشرح به الحديث النبوى الشريف.
والسؤال الأول هو: كيف لم يتوقف أتباع وأنصار ومحبو حسن البنا من أعضاء الإخوان المسلمين ومن غيرهم أمام هذا الافتآت على السنة النبوية المطهرة؟ الإجابة تكمن فى عبادة المتون والنصوص المنسوبة لابن تيمية والبنا وغيرهما.
السؤال الثانى وهو عدة أسئلة فرعية تقريرية تبدأ بـ«لماذا لم يذكر البنا اسم الغزوة أو المعركة التى قادها الرسول، وكان الطرف الآخر فيها من أهل الكتاب؟ ولماذا لم يشرح حسن البنا أسس القياس التى اعتمدها ليخرج بقاعدة تقول بوجوب قتال أهل الكتاب على إطلاقهم وفى كل الأحوال، وأن من يقتلهم له أجرا مضاعفا أى قياسا على أن من يقتلونه من المسلمين له أجر شهيدين؟!».
هل رأيتم كيف هى الجرأة فى الفتوى ومن مؤسس الإخوان، وهل من لوم بعد ذلك على شباب يمتلئ رغبة فى الالتزام بدينه وشريعته، ثم قاده قدره إلى تنظيم الإخوان ووجد أن مقررات الثقافة والفكر والتسلح بالوعى الإيمانى لفهم الدين الصحيح تفرض عليه قراءة ومذاكرة رسائل إمامه الشهيد الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هل من لوم؟ إذا اندفع هذا الشباب تجاه من ليسوا مسلمين وقاتلهم وقتلهم لينال أجرا مضاعفا؟! وهل يمكن أن يكون كلام البنا فى هذا المضمار هو مفتاح لكى نفهم ما تجود به قريحة هويدى والعوا ومن سعى سعيهما فى مسألة المسيحيين الذين هم تارة يخزنون السلاح فى الأديرة، وتارة أخرى يستفزون الأغلبية وقيادتهم البابوية ضالعة فى الانحياز السياسى ضد المسلمين؟!
إن أحدا لا يمكنه أن يرفض أو أن يعترض على توقير الناس لبعضهم البعض، خاصة إذا كان التوقير لتقدم فى العمر أو لأسبقية فى الكفاح أو لتفوق فى العلم أو حتى لمجرد حسن الخلق، ولكن أن يتم الخلط بين التوقير والاحترام الواجبين إنسانيا وبين عبادة الأفراد عبر تقديس ما ينسب إليهم من آراء ونصوص، فهذا هو المرفوض، لأنه السبيل إلى الضلال فى شؤون الدين والدنيا معا!
ولو أن الذين ينزلون نصوص ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن البنا وابن قطب وغيرهم منزلة التقديس الذى يعصمها ويعصم أصحابها من أن يرد كلامهم، إذا لم يصادف ما استقر من قواعد تحكم الاجتهاد لو أنهم انصرفوا قليلا، خاصة فى مسألة الموقف من غير المسلمين إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، وإلى المتواتر الصحيح من سلوك الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لوجدوا أن الأمر يحتمل اليسر والسعة والتسامح والمحبة، وغيرها من المعانى والمسلكيات السامية الرفيعة تجاه غير المسلمين بل أقول تجاه النفس الإنسانية عموما، حتى وإن كان صاحبها من غير المسلمين ومن غير الكتابيين، لأننا أمرنا مباشرة أن الفصل فى أى خلاف هو لله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وتعالوا نقرأ الآية الكريمة فى سورة الحج: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد» الحج «17».. هذا هو النص المحكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبوضوح لا لبس فيه يوكل الأمر لله سبحانه وتعالى ويرجئه إلى يوم القيامة.. ثم يأتى حسن البنا ليقرر أن قتال أهل الكتاب واجب وأن من يقتلهم له أجر مجاهدين، ولا أدرى أين يذهب هو وأمثاله من النص القرآنى المحكم الوارد فى سورة آل عمران: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلون من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين» صدق الله العظيم، سورة آل عمران الآيات «115:113».
ولم يسأل حسن البنا ولا من تبعه من الإخوان وغيرهم: ماذا لو قتل المسلم كتابيا من أولئك الذين يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ويؤمنون بالله واليوم الآخر إلى آخر الصفات التى وصفتهم الآيات الكريمة بها، ولم يأت من بينها إشارة إلى موقفهم من الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم؟
ولنا تكملة حول البنا والمرأة والحياة السياسية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة