فى زمن تبدو فيه العصافير غير العصافير، والأغنيات غير الأغنيات، والرياح ليست كالرياح التى عرفتها على شاطئ بيروت، الحرب الأهلية ومطاردة أطفال فلسطين فى صبرا وشاتيلا، فى هذا الزمان المخيف تعود «صهبا» إلى غزة، أنا أحب أن أكتب اسمها كما كنت أنطقه، يكتبه الجميع «صهباء البربرى»، وأنا أنطقه وأكتبه دائما «صهبا البربرى»، حتى عندما كتبت قصة قصيرة «عيون مليكة» وكتبت عليها «إهداء إلى صهبا البربرى» ونشرتها سنة 77 فى مجلة الكفاح العربى اللبنانية، ضحكت «صهبا» فى مرح العصافير وقالت: «هكذا أحب اسمى، لأن «معين» يحبه هكذا»، كانت القصة عن «سهير بسيسو» شقيقة «معين»، وعن هروبها من مذبحة «تل الزعتر, تحكى «صهبا البربرى» عن زواجها من أحد أمراء الشعر الفلسطينى «معين بسيسو»، فى أثناء زيارتها مع مجموعة من طلاب الجامعة المصرية للمعتقلين فى سجن القناطر سنة 1955 الرافضة لتوطين اللاجئين فى سيناء «مشروع سيناء»، تعرفت عليه فقد كان ضمن المعتقلين، وكانت، وبعد الزواج بسنوات عدة أهداها «معين» مهرها الذى كانت تستحقه، قصيدة، أعطاها فيها كل ما يملك: «أعطيك كنز المارد المخبوء فى السحب وكل ما أعطانى العدو والصديق»، وتحكى عن مصر ومدرسة الأميرة فوقية، عن التحاقها بكلية الآدب فى قسم الاجتماع بجامعة القاهرة وصارت عضوا فى رابطة الطلاب الفلسطينيين، وهناك صارت شيوعية، كانت أول امرأة، أول الشموع التى أضاءت الطريق إلى فلسطين، ليقول لها «محمود درويش» ذات يوم مادحا على طريقته: «أنت كالديناصورات، فمثلك انقرض من زمن»، تحكى عن ذلك دائما فى ابتسامة فى نقاء الثلج الأبيض، تحكى عن حملة الاعتقالات الموسعة ضد الشيوعيين فى مصر وسوريا والعراق، والتى طالت شيوعيين فلسطينيين فى قطاع غزة، كان من بينهم خطيبها «معين بسيسو» وتم نقلهم للسجن الحربى لتقضى 42 يوما فى الحبس الانفرادى فى السجن الحربى، فى سجن الرجال، بعدها تم نقلها إلى سجن النساء فى القناطر لترافق الفنانة العظيمة «إنجى أفلاطون» و«ثريا شاكر» و«محسنة توفيق» وتعلمها الرفيقة «جين سيداروس» اللغة الإنجليزية، وتقرأ معهن أكثر من 100 كتاب، فى عام 77 على ما أذكر طلب منى «معين بسيسو» أن أعد فى بيته بعد يومين وليمة من الأسماك للزعيم «ياسر عرفات» وخاصة «شوربة السمك» و«طاجن السمك» التى طلبها من «معين» الطباخ الماهر، إلا أن «معين» أخبره بأنى أجيد إعداد السمك أكثر منه، يومها أصبت بحالة من الهلع الرهيب، فلم تكن تمضى على محاولة «أبوالسعيد» مدير مكتب «عرفات» الذى أخفى السم فى جيبه 6 شهور، وهو عبارة عن حبة تشبه حبة الأرز تماما، وحمل فى جيبه حبة الأرز التى تشوبها زرقة طفيفة جدا لمدة 185 يوما متحينا الفرصة السانحة لدسها فى طبق طعام «الختيار»، وتم إعدامه فى مقر قيادة الـ17 فى بيروت، وقد سمعنا يومها أن «الأخ أبوعمار» نفسه هو الذى أعدمه بعد صدور الحكم بإعدامه مستخدما المسدس «سميث 50» والمعلق دائما فى خاصرته، وهرولت لأخبر «أبوإياد» بطلب «معين»، فضحك «أبوإياد» ضحكته الجميلة الصافية وقال لى بأنه سوف يكون هناك، وقال لى بلهجته المصرية بالحرف الواحد: «ما تخافش يا عكروت، دا بيت معين بسيسو يا ولد، وصهبا البربرى هناك»، وطبخت شوربة السمك والطواجن وساعدتنى «صهبا» وتمت الوليمة التى حضرها كل قيادات «فتح»، تحت إشراف «صهبا» التى لم أرها بعد خروجنا من بيروت إلا مرة واحدة جاءت فيها إلى مصر لتدفن جثمان زوجها الحبيب الذى توفى إثر نوبة قلبية حادة فى أحد فنادق لندن يوم 23 يناير 1984، وفى زمن تبدو فيه العصافير غير العصافير، والأغنيات غير الأغنيات، والمناضلون غير المناضلين، والشيوعيون غير الشيوعيين تمضى «صهبا البربرى/ أم توفيق» حياتها فى غزة لتكون أول الشموع وآخر الديناصورات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة