منذ أكثر من قرنين رست سفن القائد الفرنسى الأشهر «نابليون بونابرت» على شواطئ الإسكندرية، كانت السفن عامرة بالأسلحة الفتاكة والعقول الجامحة، أعلن نابليون منذ قدومه عن أنه مبعوث العناية الإلهية لمصر، أخفى أطماعه ودوافعه الحقيقية لاستعمار مصر، وغرر بقطاع عريض من الشعب المصرى تحت زعم أنه يريد أن يخلصهم من المماليك، بينما كانت أطماع نابليون تنمو فى خلق إمبراطورية شرقية لفرنسا مركزها مصر، كان علماؤه ومهندسوه وجنوده يتوغلون فى الدولة المصرية، يصادقون الشعب ويفتنون بنسائه ويتمنون لو أصبحت مصر لهم، والشعب فى كل هذا يشاهد وينبهر ويقاوم ويتمرد، كانت الصدمة الحضارية قاسية على الشعب المصرى حتى أنه اعتبر بعض تجارب علماء الحملة الفرنسية العلمية عملا من أعمال السحر، وهو الأمر الذى أسهم فى انبهار المصريين بالـ«الفرنسيس» حتى أن المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتى استفاض فى وصف هذا الانبهار، مؤكدا أن ما يقوم به هؤلاء العلماء لا تستوعبه عقول أمثالنا، ولك أن تسأل ما دخل الحملة الفرنسية وآثارها بما نعانيه الآن؟ ولماذا ترك كاتب هذه السطور مصر وما فيها ومضى يتكلم عن الحملة الفرنسية؟
لك كل الحق أن تسأل هذا السؤال، ولى كل الحق أيضا أن أقول لك إننى لو أردت أن أصنف المرحلة التى نعيشها الآن على غرار ذلك التصنيف الذى ابتكره علماء الآثار بإطلاق لفظ «إنسان الكهف» لمرحلة حياة الإنسان فى الكهوف، أو «الإنسان الحجرى» للمرحلة التى أستخدم فيها الإنسان الحجر فإنى لا أجد وصفا مناسبا للإنسان المصرى الآن أكثر من وصفه بـ«إنسان الحملة الفرنسية» ذلك لأننا تجمدنا ولم نغادر تلك النقطة التى وصفها الجبربتى بالقول: «لا تستوعبه عقول أمثالنا» مضت عقود وقرون، ولدت أجيال وماتت أجيال، تغيرت أنظمة وزوت ممالك، ونحن فى نفس المكان، ما بين منبهرين بالغرب منسحقين أمامه، ومقاومين للغرب لاعنين أسلافه وسلالاته، بعضنا يجرنا إلى منابع التخلف الأولى ظنا منه أنها المنجى والخلاص، والبعض الآخر يرى فى الانسحاق أمام الغرب طوق النجاة الوحيد، بعضنا يرفع راية «يستمر الغلاء ما لم تتحجب النساء» غير مدرك أن %99 من نساء مصر محجبات وأن الغلاء يتضاعف طرديا مع عدد محجبات مصر، يقفون مثلما وقف شيوخ مدينة «بخارى» بأوزبكستان فى القرن التاسع عشر ليقنعوا أميرهم بعدم حاجتهم لأسلحة حديثة لمواجهة الروس، وأنهم سيطردون العدوان بترديد آيات القرآن وتسبيح الخالق الأعظم، فكانت النتيجة هى هزيمة جيش المسبحين واحتلال أوزبكستان التى أصبحت من بين دول الاتحاد السوفيتى السابق، وبعضنا الآخر يرى فى أن الخلاص الوحيد هو تقليد الغرب فى كل أفعاله وأقواله، غير مدركين التقليد - كما فعلت بعض الدول الخليجية - مهما كان متقنا سيظل أبد الدهر تقليديا، وأن الإنسان المصرى أو العربى بمكوناته الثقافية والوجدانية يختلف تمام الاختلاف عن الإنسان الغربى وحضارته ومكوناته، وأن ما تم تأسيسه على الباطل سيظل باطلا حتى لو علا وارتفع.
المنادون بـ«التغرب» والمنادون بـ«الرجعية» سواء، والاثنان لا يزيدان عن كونهما تجسيدا لـ«إنسان الحملة الفرنسية» ومن لا يصدقنى فلينظر إلى شواطئ أوروبا التى تستقبل عشرات من جثث المصريين المنتفخة على رمالها، بعد أن باعوا «اللى وراهم واللى قدامهم» ليصبحوا خدما فى المطاعم أو عمال سخرة فى المناجم، وليتنازلوا عن حريتهم وإرادتهم وحياتهم من أجل خدمة ذلك الأوروبى الذى أدرك أن احتلال بلاد الشرق مكلف ومرهق فاستغنى عن المصر واحتل المصير، ولا سبيل أمامنا إلا بالتخلص من الصدمة الحضارية التى سببتها الحملة الفرنسية والنظر إلى داخلنا لنكتشف عيوبنا وميزاتنا، دون أن ننسحق فنسحق أو نتغرب فنتوه.