ثلاثة أعوام كان فيها علم مصر هو الشىء الوحيد الذى اتفق حوله المصريون، فى التحرير والميادين. تلقائيا ومن دون اتفاق كان العلم هو رمز التغيير، قطعة قماش بألوانها الحمراء والبيضاء والسوداء، لم تكن فى حاجة لكلام أو هتاف. قبل المظاهرات رفع كثيرا فى المباريات وفى كل فوز رياضى.
كان العلم رمز الوحدة والتغيير والثورة، كانت الأعلام الأخرى بدايات للتفرق والتشتت، ظهرت أعلام للجمع، وأخرى للمظاهرات، فى كل خطوة يظهر فيها علم جديد كانت علامة تفرق. كما كان رفع علم القاعدة وتشكيلة الأعلام السوداء علامات لتيارات تفضل الأممية الدينية عن الوطنية. وفى البرلمان الأول بعد الثورة، رفض بعض السلفيين الوقوف للعلم أو تحيته ومعه السلام الوطنى، باعتبار كل هذا وثنية، وهؤلاء غالبا لم يشاركوا فى المظاهرات ولا رفعوا علما، ودخلوا فى جدل قد يبدو تافها، لكنه يعبر عن رؤيتهم التى ترى العالم مجرد أناس يقتل بعضهم بعضا، ولايرون التغيير، غير أن الأكثر سلاحا هو الفائز، وهى رؤية سطحية كلفت هذه الجماعات والأبرياء آلاف الضحايا خلال عقود.
تكرر الأمر فى تأسيسية الدستور الأولى والثانية وحتى الحالية، كان من يرفضون تحية العلم، يفرحون بأعلام سوداء ترفرف عليهم، رأيناها فى المظاهرات التى فرقت الجموع، واعتبرت قندهار أفضل من غيرها.
الأمر إذن قديم، وقد رأينا مظاهرات الجماعة تنكس العلم، أو تقلبه، أو تحرقه باعتباره علما يخص شعبا آخر، وناس تانية، مع إن العلم لم يكن رمزا لجيش أو سلطة بعد أن استرده المصريون، وكل من شاركوا فى ثورة يناير لاشك يعرفون هذا، لكنهم كالعادة ينكرونه.
لكن بجوار المتطرفين الذين لديهم خلط بين الدولة والدين والخلافة واهتزاز فى مفاهيم الوطنية، تلتقى فكرة كراهية العلم، واحتقاره مع تيارات تنتمى إلى اليسار، يلخصها البعض بأنهم الاشتراكيون الثوريون، لكن هذا الاسم يوضع تحته تنويعات من الأناركية والعدمية والفوضوية ومشاعية القرن التاسع عشر، وهؤلاء يتبنون أفكارا ترفض فكرة الدولة، والعلم أو أى من مفرداتها، وهؤلاء موجودون فى كل دول العالم، وفى مصر ظهروا أكثر بعد يناير، وبعضهم لمع بعد استعراضات حقوقية أو ثورية، كانت بلا هدف ولا ملامح، جذبت متظاهرين كانوا يحلمون بالتغيير من دون تصورات، لكن بعد تجارب انصرف البعض للقراءة والتعرف بنفسه، واختلفوا مع هؤلاء العدميين.
ومن بين الأناركية من خرج يعتبر الدفاع عن العلم فى مواجهة الحرق نوعا من المبالغة، يرفعون الدم أو رفض مايجرى، لكنهم فى الغالب ضد الدولة، ورموزها، وضد من يسمونهم «الدولجية» وصفا لمن يدافعون عن أن الدولة يجب أن تكون قائمة.
وفى مواجهة هؤلاء من المتطرفين المؤيدين لحرق العلم، هناك تيار واسع يرى الأمر نوعا من العدوانية الواضحة، واستمرارا للفوضوية التى سيطرت على احتفالات محمد محمود، بل إن هؤلاء الحارقين مسؤولون عن الدم أيا كان.. ويعتبرون حرق العلم فى التحرير، مظهرا لمعتقدات. سواء لدى من حرق أو من أيد، ولم يقدم تبريرا لهذه الفوضى التى تقود للدم، والعدوانية المجانية العدمية التى لا أحد يعرف لها أولا من آخر.