الحياة رحلة نسير دروبها فى زمن تُقاس به أعمارنا، يعيش فيها من يظن أنه يحيا، ولكنْ بخار حياته قد ينقشع دون أن يترك آثارًا تُذكر. وآخرون صارت حياتهم قطرات ندى تجمعت حتى صارت أنهارًا يرتوى منها العالم بأسره.
يقولون: "العمر هو الشىء الوحيد الذى كلما زاد نقص". كلمات صائبة؛ فالدقائق التى تمر بأعمارنا تنتقص منه، إلا أننى أرى أن هناك أعمارًا كلما ازدادت ثقُلت فى ميزان قلوب البشر. يقول الشاعر الأمريكى "روبرت فروست" الذى أعتُبر أحد أعاظم شعراء اللغة الإنجليزية: "أستطيع تلخيص كل ما تعلمتُه عن الحياة فى ثلاث كلمات: إنها مستمرة". بالفعل الحياة مستمرة، إلا أن النقطة الأكثر أهمية: كيف تستمر؟
إن الحياة هى تلك الهبة التى قدمها الله إلى الجميع فوضعها لكل إنسان فى مصرف "بنك" الأيام، فيستثمرها من عرَف معناها ويتاجر ويربح، ويخسِرها من اكتفى بالصرف منها بطريقة سطحية متوقفًا عند أحرفها فقط، فهناك من سار فيها لتسير هى به! لا يتطلع إلى السائرين من حوله ولا يُدرك علامات الطريق، فلم يزده هٰذا إلا شيبًا. ومنهم من سار فتعلم وأدرك بعضًا من دروسها. وقليلون هم الذين ساروا، وتعثروا، وقاموا، وتعلموا، بل وصارت خطاهم فى الحياة علامات يقتفى أثرها كل من جاء بعدهم؛ فتعلموا الحياة وعلَّموها.
نعم هناك من أعطته الحياة، وهناك من أعطى الحياة؛ فسُطِّرت أيامه فى كتابها لأنه وهبها طرقًا ممهدة ومصابيح أضاءت أعمار مَن بَعده.
وهنا نتوقف لكى نفكر من أى نوع صارت حياتنا: هل أخذنا منها، أم أخذتنا هى، أم أضفنا إليها؟ وأيًّا كانت الإجابات؛ إلا أننا ما زلنا نحيا، وتلك فرصة لنعيش الحياة كما يجب، لئلا يصير الزمن مثل السوس؛ يأكل العمر.
اندهش الطفل الصغير وانتابه الفضول وهو يضع ساعة أبيه الكبيرة على أذنه ويسمع صوت دقاتها المتلاحقة. وأخذ ينظر إلى الساعة ثم يضعها على أذنه محاولًا اكتشاف سر الصوت متسائلًا: ما هٰذا الصوت المنبعث من ساعة أبي؟! ولمّا لم يجد إجابة، أسرع يسأل أباه، فأجاب الأب: يا ابني: إنها سوسة تأكل فى عمرنا!!
يقولون إن: "الحياة هى فرصة لا تأتى الإنسان إلا مرة واحدة"، فكيف ننتهزها كاملة؟ قرأتُ قصيدة للشاعر الإنجليزى "وليم هنرى ديڤز" تتحدث عن الحياة وكيف أنها حياة بؤس وشقاء؛ فقد لا يجد الإنسان الوقت لأنْ يرى إبداعات الأيام. وهنا أؤكد لا على إبداع الرؤية، وإنما كيف يكون لحياتنا المعنى المبدع الذى يُحفر لا على جدران الزمان فقط، بل فى قلوب البشر.
قال الشاعر إيليا أبو ماضى فى بيت شعرى مبدع موجِز متحدثًا عن الحياة:
لَيْسَتُ حَياتَكَ غَيْرَ ما صَوَّرْتَها أَنْتَ الْحَياةُ بِصَمْتِها وَمَقالِها
و... وعن الحياة وفيها سنُبحر فى حديث ذى شؤون وشُجون. .
* الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسيّ
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة