يوم الجمعة الماضى نشرت صفحة الوفيات فى جريدة الأهرام شكرًا خاصًا من إحدى العائلات لمن واسها فى مصابها الأليم بوفاة إحدى سيداتها. وهو أمر معهود لبعض العائلات، تنشره لتشكر الشخصيات العامة التى واستها فى مصابها.. إذن فعائلة المتوفاة التى لم أشرف بمعرفتها، أو معرفة وضعها فى المجتمع المصرى، لم تخرج عن المألوف، ولكن الذى لم يكن مألوفًا أن يتصدر الشكر اسم الرئيس الأسبق حسنى مبارك وعائلته، ثم يليه اسم رئيس الوزراء وجميع الوزراء الحاليين. وقد استدعى هذا الشكر والجهر به إلى عقلى مقالًا قديمًا نشرته فى ذات المكان، ونفس الجريدة بتاريخ 12 سبتمبر عام 2011، أى بعد خلع مبارك بشهور، وكتبت أقول فيه متسائلة فى العنوان «أين ذهب أموات مصر؟». وسأعيد عليك السيد القارئ نشر المقال ذاته لعلّة فى نفس يعقوب، حيث كتبت أقول:
قلّت أعداد الأموات فى مصر بعد الثورة، هذا بيان ليس صادرًا من أحد المراكز البحثية، أو من وزارة الصحة، ولكنه أتى لى عبر ملاحظة قد لا تكون استرعت انتباه أحد، أو ربما انتبه إليها البعض، ولكن لم يتوقف أمام تلك الظاهرة ليسأل فيها، وها أنا أطرحها علّى أجد إجابة أو ردًا.
قبل زمن طويل كان الإعلان عن موت أحد يتم عن طريق منادٍ يقرع طبلة فى طرقات المدينة إن كانت صغيرة، أو الحى الذى يقطن فيه المتوفى إن كانت كبيرة، ولكن منذ عرفت مصر الصحف صار تقليدًا عند بعض العائلات الكبيرة نشر خبر وفاة أحد أفرادها فى الصحف.
وحديثًا صار نشر نعى للمتوفين فى الصحف أمرًا يكاد يكون ملزمًا لأهله على اختلاف المستويات الاجتماعية أو الاقتصادية. وحظيت صحيفة الأهرام دون سواها من صحف مصر بالمكانة الأولى فى هذا المجال، حتى حين تدنى مستواها المهنى ظلت صفحات الوفيات فيها هى الأكثر جاذبية للقارئ، للدرجة التى جعلت البعض يطلق متهكمًا أو جادًا أن من مات دون أن يكون له نعى فى صحيفة الأهرام لم يمت!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد صارت صفحات الوفيات مجالًا للتفاخر بين الأحياء، فكلما علا شأن أهل المتوفى أو أقاربه كبر النعى ومساحته وعدد المواسين لهم فى مصابهم، مما كان يتكلف مئات الآلاف من الجنيهات، فكما تقول النكتة إن كلب العمدة حين مات اصطف الآلاف للعزاء، بينما حين مات العمدة نفسه لم يذهب أحد، وكم فى مصر من عُمد! وهل يستطيع أحد أن ينكر كم تكلف دافعو الضرائب فى هذه الصفحات من أموال وضعها الوزراء والمسؤولون المتعاقبون لمواساة فلان ابن فلان.
ولم تكن صفحات الوفيات- خاصة فى الأهرام- مجالاً فقط للمباهاة أو الإنفاق الحكومى أو النفاق، لكنها فى زمن الحرب مع إسرائيل كانت وسيلة مخابراتية لمعرفة معلومات عن الجيش المصرى وأفراده عبر إعلانات وفياتهم، وهى أخيرًا وأولاً وسيلة للمعرفة فى زمن «الماسيجات» للمواساة.
وبغض النظر عن وظائف صفحات الوفيات فى الصحف، خاصة جريدة الأهرام، فالملاحظ أنها تقلصت، وقلّت إلى الدرجة التى صدرت فيها صحيفة الأهرام فى بعض الأيام بنصف صفحة وفيات فقط بعد الثورة، فما الذى حدث؟، هل قلت أعداد الوفيات فى مصر فى غضون هذه الشهور لأن الناس فى مصر صارت أكثر سعادة وأطول عمرًا وأقل تعرضًا للمرض، وبالتالى للموت، بسبب نهاية حكم مبارك؟ أم أن عصر النفاق الاجتماعى قد زال، ولم يعد أحد مهتمًا بمجاملة مسؤول أو شخص ذى هيبة؟ أم أن الظروف الاقتصادية بعد الثورة دفعت الغنى للخوف من التباهى، والمتوسط الحال لضم اليد على مال لا يعرف كيف سيأتى به غدًا، وبالتالى يسير الكل على مبدأ أن الحى وماله أبقى من الميت وإعلانه؟
أنا لا أملك الإجابة التى قد تختلف عما طرحته من تساؤلات أو قد تكون إحداها، ولكن المؤكد أن هناك اختلافًا فى مصر حدث بعد 25 يناير عام 2011، فحين تختفى صفحات الوفيات أو تكاد فى صحف مصر، خاصة الأهرام، فلابد أن يهتم أصحاب المراكز البحثية بمثل هذه الظاهرة، وإلا هل سنقول جميعًا إن كل نعى لمتوفى قبل الثورة كان لكلب العمدة، والآن ذهب العمدة فلم يعد الناس بحاجة لأى نعى؟
انتهى هكذا مقال قديم منشور فى 2011، ولكن يبدو أن عُمد مصر لا ينتهون بسهولة.. صحيح أنه من حق كل مواطن أن يشكر أى مواطن من الغفير إلى الوزير، بمن فى ذلك رئيس سابق أو أسبق، ولكن صفحات وفيات الأهرام بدأت تستعيد عافيتها، فهل فى ذلك دلالة على أن مصر واقتصادها بخير ويتعافى، أم أنه دلالة على أننا لسه بعافية والحدق يفهم؟.. رحم الله أمواتنا تحت الأرض وأحياءنا فوقها.