لا أرى بجاحة أكثر من ادعاء البعض بأن مصر بها خبرات عالمية، يجب أن نستثنيها من الحد الأقصى للأجور، وأن هناك قطاعات مثل البترول والبنوك والكهرباء، يجب أن يعاملوا معاملة خاصة، لا تخضع للقانون، فمثل هذه الدعاوى تجعلك تظن أن مصر أصبحت أولى الدول المتقدمة بفضل هؤلاء الخبراء، وأنها لو طبقت هذا القانون على الجميع، ستهبط إلى أسفل سافلين، وأن هؤلاء الخبراء العلماء الأفذاذ، يتفضلون علينا بالعمل فى بنوكنا ووزاراتنا، ولذا يجب علينا أن نرضيهم ونسترضيهم، وأن نستيقظ من النوم فجرا لندعو لهم بالصحة والعافية والصبر على ما ابتلاهم ربهم به، وأن نتضرع إلى الله باكين مبتهلين، بأن يطرح فيهم البركة، ويعميهم عن قدراتهم العظيمة التى لو علموا بها، فسينقلبون علينا ويذهبون إلى غير رجعة.
نصف مليون أم 40 ألفا، هذا أحد العناوين الضخمة لإحدى الجرائد اليومية الحكومية التى تناولت مشكلة تطبيق الحد الأقصى للأجور، وفى كل الصحف تقارير إخبارية مشابهة عن كيفية تطبيق قانون الحد الأقصى للأجور، ومدى خطورة أن يتم تعميم هذا القانون على جميع الوزارات والهيئات، مدعين أن على رأس هذه المؤسسات أشخاص «أفذاذ» سيتركون العمل إذا ما تم تطبيق القانون على الجميع، وفى ظل حكومة مرتعشة مثل حكومة الدكتور الببلاوى، يصبح هذا التهديد ذا أهمية قصوى، ولو كنت مكان هذا الببلاوى، لاعتبرت هذا التهديد فرصة ذهبية وهدية من السماء لتخفيف أعباء الدولة التى يتكدس على رأسها أصحاب الملايين من كبار السن، والمعوقين فكريا، وتترك شبابها يعانى من البطالة، والركود والرسوب الوظيفى.
الادعاء بأن خبراء ومسؤولى هذه القطاعات يجب أن يميزوا بالقانون هو ادعاء باطل جملة وتفصيلا، لأن مسؤولى هذه القطاعات لا يتميزون بشىء على بقية القطاعات، فالمهندس الذى يعمل فى البترول، لا يتميز فى شىء عن المهندس الذى يعمل فى المحافظة، وإن كان لابد من أن نميز «مهندس البترول» لأنه يغترب عن أهله ويعمل ساعات أكثر، فيجب علينا أن نضع قانونا يساوى بين كل المهندسين الذين يعملون فى الحكومة، ويغتربون عن أهلهم ويعملون ساعات أكثر، أما فى القطاعات الأخرى مثل قطاعات البنوك والكهرباء والمالية، فإنى لا أرى فرقا بين محاسب يحمل فى وزارة الثقافة وآخر يعمل فى وزارة المالية، وثالث يعمل فى بنك ما، فأولا وأخيرا فإن العاملين فى هذه القطاعات لا يأتون بشىء من بيوتهم، ويتفضلون علينا به، لأنهم جميعا يعملون فى موارد للدولة، وفكرة أن نميز هؤلاء لأن قطاعاتهم غنية، هو أمر أشبه بتقنين الإتاوة والفِردة، ومعناه أننا لا نعمل فى دولة وإنما فى طابونة.
أما الادعاء الثانى الذى يدعيه بعض المدلسين، بأن شركات القطاع الخاص ستخطف هذه الخبرات العالمية، إذا ما طبقنا الحد الأقصى للأجور، وأن أمثال هذه «الخبرات» ستهرب من المصالح الحكومية إلى القطاع الخاص فهو ادعاء كاذب وحقير، لأن من يعمل فى «الحكومة» يكون على علم تام بأن نظيره فى القطاع الخاص، ربما يتقاضى أضعاف راتبه، وليس أدل على هذا من أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما يتقاضى سنويا 400 ألف دولار، بينما بيل جيتس رئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت يتقاضى 55.880.597، 00 دولار، ما يعنى أن بدعة التمييز هذه لا تتعدى كونها وقاحة مصرية خالصة، وبالمناسبة، فأنا لا أمانع أبدا أن يكون الحد الأقصى 10 ملايين جنيه، بشرط وحيد هو ألا يزيد هذا الرقم عن 36 ضعف من أجر أصغر عامل فى الجهاز الإدارى للدولة.