من أبرز تجليات «الفهم» أن يخوض المرء المعركة المناسبة فى الوقت المناسب، لكنى فى الحقيقية لا أرى أثراً لهذه «التجليات» فى ممارسات العديدين ممن يفترض فيهم أنهم «نخبة»، ذلك لأن هذه «النخبة» تركت مصر غارقة فى العبث والعشوائية والفقر والتخبط وتستعد الآن لتخوض معركة غير مفهومة حول مادة المحاكمات العسكرية لمن يعتدون على أفراد الجيش ومنشآته ومؤسساته، وبدلاً من أن تجتهد هذه «النخب» فى أن توفر حياة آدمية لشعب يعيش معظمه تحت خط الفقر وأن تكرس جهدها لقضية مثل قضية الحد الأقصى والأدنى للأجور تستعد الآن لتحشد الناس ضد الدستور الجديد بحجة أن المادة 174 تنتقص من حقوق المدنيين، وأنها تسمح بالمحاكمات العسكرية لهم، وهو الأمر الذى فندته فى مقال سابق بعنوان «المحاكمات العسكرية فى دستور 30 يونيو.. هناك فرق»، وقلت إن هذه المادة بهذا الشكل لا تنتقص من حقوق المدنيين، وكل الغاية منها الحفاظ على مؤسسات الجيش من المليشيات المسلحة التى نتجرع من ويلاتها صباح مساء، كما قلت أن هذه المادة أفضل كثيرا من مثيلتها فى دستور الإخوان «دستور 2012» والتى أعطت للجيش حق محاكمة المدنيين عسكريا إذا ما «أضروا الجيش» وتركت معنى هذا «الضرر غامضاً» وهو ما قد مهد لاستخدام هذه المادة من قبل الرئيس المعزول محمد مرسى الذى ادعى أنه رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة واعتبر أن انتقاده يوقع ضررا على المؤسسة العسكرية مهددا معارضيه فى إحدى خطبه بهذا بالتحويل للمحاكمة العسكرية، بينما حددت المادة 174 فى الدستور الجديد حالات الإحالة للمحاكمة العسكرية بشكل غير مسبوق، ولم تسمح بإحالة المدنيين إلى المحاكمة العسكرية إلا فى حالات الاعتداء المباشر على الجيش ومؤسساته وأفراده أثناء مهام وظيفتهم، وهو الأمر الذى يؤكد أن معارضى هذه المادة «حافظين مش فاهمين».
للمرة الثانية أؤكد أننى كنت أعارض مادة المحاكمات العسكرية فى دستور الإخوان كما عارضتها أثناء حكم المجلس العسكرى وعارضتها أثناء حكم مبارك، وكان أساس الاعتراض هو الاستخدام السياسى لإمكانية محاكمة المدنيين عسكرياً، وهو ما يثير علامات الاستفهام الآن، إذ حرمت المادة الجديدة فى الدستور الجديد على المؤسسة العسكرية أن تستخدم حقها فى محاكمة المدنيين إلا إذا اعتدوا بشكل مباشر على القوات المسلحة، كما منعتها من شبهة الاستغلال السياسى للمحاكمات العسكرية، وهذا ما يجعل أساس اعتراضنا على المحاكمات العسكرية غير موجود، وفى الحقيقة فإنى أرى الاعتراض على هذه المادة الآن ضرباً من الخبل، فالإنسان «العادى» لا يرتدى «المايوه» إلا إذا كان على الشاطئ، والإنسان العادى يرفض الاستخدام السياسى للمحاكمات العسكرية، لذا فإن من يعترضون الآن على هذه المادة برغم أنها غير قابلة للاستخدام السياسى أشبه بمن يلبس مايوه فى «وسط البلد».
لست هنا لأبرر فكرة محاكمة المدنيين عسكرياً، لكنى فى الحقيقة أرى فساداً فى منطق المعترضين على المادة 174 فى الدستور الجديد، وحجتهم فى هذا الأمر هو التشكك فى نوايا القوات المسلحة، وادعاؤهم بأنه من الممكن أن يلفق الجيش الاتهامات لهم، وإذا سلمنا بهذا المنطق فإنى أؤكد أن قولهم مردود عليهم، وهو أن من يتشكك فى نية الجيش والقضاء العسكرى من الممكن أيضاً أن يتشكك فى الشرطة والقضاء المدنى، ولا أدرى كيف يعترضون على محاكمة المدنيين عسكرياً إذا ما اعتدوا على ضابط جيش ويقبلون أن يحاكموا مدنياً إذا ما اعتدوا على قاض أو وكيل نيابة، فإذا ما سلمنا بمبدأ التشكيك فإن ما ينطبق على الشرطة ينطبق على الجيش، وما ينطبق على القضاء ينطبق على قادة القوات المسلحة، غير أنه يبدو أنه قد كتب علينا أن نعيد شرح البدهيات.
وائل السمرى
هل من حق من يعتدى على القضاة أن يعترض على محاكمته أمام المحاكم العادية؟
الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013 03:01 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة