فى الحروب والاضطرابات والمشكلات العاصفة تظهر فئة من الناس تتغذى على دماء البسطاء وتأكل ما تبقى من لحوم البشر التى أنهكها الواقع المؤلم، ولا يعد ظهور هذه الفئة من الناس أمرا مفاجئا لدى من يمتلك أدنى وعى بالثورات والاضطرابات، بل هو أمر أساسى يعرفه القاصى والدانى، وسبق أن شاهدناه عقب ثورة يناير، وشاهدناه أيضا عقب كل موجة ثورية لاحقة له، غير أن ما كان يقال وقتها كتبرير لضعف يد الدولة على الشارع المصرى لا يصح أن يقال الآن، فقد كان المجلس العسكرى ومن بعده «مكتب الإرشاد» يتحججون بأن الدولة فى مرحلة انتقالية، وأن مؤسسات الدولة المعنية بإحكام الرقابة على الشارع المصرى، هى الأخرى تعانى من العديد من الاضطرابات والقلاقل والمظاهرات، أما الآن فالوضع مختلف، وأزعم أن الحكومة بمؤسساتها المختلفة تهدر فرصة قلما تتكرر لإحكام قبضتها على السوق والشارع المصريين، ذلك لأنها ربما لأول مرة منذ عقود تحظى بتأييد شعبى نادر لكل القرارات التى تستهدف حماية المواطن من تجار الفوضى، لكنها للأسف تركت الشعب وحده يواجه جشع التجار وقسوة سائقى الميكروباص وفوضى الباعة الجائلين ليسهم هذا الوضع فى إضعاف شعبيتها وتململ الناس بطء إجراءاتها.
نعم تواجه الحكومة تحديات كبيرة، ونعلم تمام العلم أنها تخوض معارك ضارية على المستوى الاقتصادى والأمنى والقومى، لكننا نعلم أيضا أن رضا الشعب عن أى حكومة هو الضمانة الأساسية للحفاظ عليها وهو الداعم الأول لاستقرارها وهو السند الذى تتكئ عليه إذا ما عصفت بها عاصفة، ولهذا فإن أقل شىء يمكن أن تفعله الحكومة لتدعيم سلطاتها أن تهتم بكل ما يخص المواطن العادى فى تفاصيل الحياة اليومية، لتشعره بأنها تقف إلى جانبه، وتمنحه أملا بأن القادم سيكون أفضل، أو على الأقل لن يكون «أسوأ».
يقف المواطن المصرى ساعات أمام مواقف الميكروباص، وحينما تأتى العربة التى من المفترض أن يستقلها يجد نفسه محشورا وسط عشرات الأجساد التى تتدافع أمام العربة، ولا يقف الأمر عند هذه المهانة الإنسانية، وإنما يجد نفسه مضطرا لحشر آخر داخل السيارة التى تستقبل ركابا أكثر من حمولتها المفترضة، ثم يقع فريسة لسائقى الميكروباص الذين يضاعفون عليه الأجرة أكثر من مرة، تحت مزاعم مختلقة مثل نقص البنزين أو السولار أو ضيق وقت العمل تحت ظل حظر التجوال وهى المزاعم التى لا محل لها الآن من الإعراب، فمنذ 30 يونيو اختفت أزمة الوقود، كما أن حظر التجوال الآن أخف كثيرا مما سبق ولا تتعدى ساعات الحظر عدد أصابع اليد الواحدة، ولا تقف طاحونة الاستغلال عند هذا الحد وإنما تتعدى هذا ليقوم سائقو الميكروباصات بـ«تقطيع المسافة» ليدفع المواطن فى الرحلة الواحدة، أضعاف ما كان يدفعه قديما، وكل هذا بالطبع من شأنه أن يشعر الناس بأنهم «نهيبة» لكل عابر، وأنهم عوقبوا بحلمهم بالتخلص من ظلم الحكام بتعرضهم يوميا لقهر طفيليات المرحلة الانتقالية، من باعة جائلين وسائقى ميكروباص، وعلى الحكومة أن تضع حلا لهذه المشكلات نصب أعينها بأن تعيد الانضباط إلى الشارع المصرى بكل قوة وحزم، وأن تتخطى مرحلة التغنى بـ عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية بأن تحاول أن تحققها على أرض الواقع.