من المنبع نفسه يستمد المنتسبون لما يسمى تيار الإسلام السياسى مواقفهم من غير المسلمين ومن المرأة أيضا، وما حدث للكنائس والأديرة فى الآونة الأخيرة لن يتوقف طالما بقى المصدر الذى يستقى منه الإخوان والسلفيون والجماعات الأخرى فكرهم، الذى يظنونه أحكامًا فقهية واجبة، وأظن أن كثيرين سيسألون استفهاما أو استنكارا: كيف أضع الإخوان الذين عُرِف عنهم الوسطية والاعتدال فى كفة واحدة مع السلفيين والجماعات الإسلامية، جهادية وغير جهادية، الذين عُرِف عنهم التشدد والغلو؟ فأقول إننى وجدت عند حسن البنا فى مسألة غير المسلمين ما قد يماثل وربما يفوق ما عند ابن تيمية الذى يستند إليه معظم، إن لم يكن كل، الغلاة المتشددين، ناهيك عن أن البنا يشتد أيضا فى مسائل تتعلق بالمرأة والتعليم والصحافة.
لقد ظن كثيرون أن سيد قطب هو أصل البلاء فى فكر الإخوان ومسلكهم، وأن إليه يعود الانحراف عن المنهج البناوى، أى منهج حسن البنا المعتدل، ولكن الأمر مختلف إذا عدنا إلى فكر البنا فى مصادره الأصلية، حيث سنكتشف بوضوح لا لبس فيه أن الرجل هو باذر بذور الغلو والتطرف والتشدد، وبصورة قد لا يتخيلها البعض.
إننى سأحاول التأصيل لما يحدث تجاه المسيحيين فى مصر، وآخره المذبحة فى كنيسة الوراق، ثم فى مرات مقبلة سأحاول التصدى للحديث فى مسألة العلاج، حتى لا يكون شأننا هو التشخيص والبحث فى نقائص الآخرين وفقط. لقد سبق وكتبت، وسأبقى أذكر، أن الإخوان والسلفيين ومن شاكلهم قد نجحوا فيما لم ينجح فيه الاستعمار الفرنسى والبريطانى ومن بعدهما العدو الصهيونى والإدارة الأمريكية، الذين حاولوا دق الأسافين لتمزيق الوطن المصرى بالفرز على الهوية الدينية والطائفية والمذهبية، بل إن ذلك التيار المتأسلم بجميع فرقه قد وصل بالتفتيت إلى المستوى ما تحت المذهبى، أى الميكروسكوبى، لأنهم لا يجدون حرجا فى التشكيك فى صحة إسلام مسلمين من أهل السنة، بل وأحيانا من المذهب نفسه، أى حنابلة أمثالهم، فما بالك بالأحناف والمالكية والشافعية، وجميعهم سُنة لا خلاف على انتمائهم.
فى باب عقد الذمة وأخذ الجزية بالجزء الرابع من الفتاوى الكبرى لأحمد بن تيمية طبعة دار المعرفة ببيروت ودون تاريخ للنشر، يقول ابن تيمية ما نصه: «والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة، أى البلاد التى فتحها العرب بالقوة، فلا يستحقون إبقاءها ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا، وإذا صارت الكنيسة فى مكان قد صار فيه مسجد للمسلمين يصلى فيه، وهو أرض عنوة، فإنه يجب هدم الكنيسة التى به، كما روى أبو داود فى سننه عن ابن عباس عن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: لا يجتمع قبلتان بأرض. وفى أثر آخر: لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب. ولهذا أقرهم المسلمون أول الفتح على ما فى أيديهم من كنائس العنوة بأرض مصر والشام وغير ذلك، فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد فى تلك الأرض أخذ المسلمون تلك الكنائس فأقطعوها وبنوها مساجد وغير ذلك، وتنازع العلماء فى كنائس الصلح إذا استهدمت هل لهم إعادتها على قولين، ولو انقرض أهل مصر أى بلد ولم يبق أحد ممن دخل فى العقد المبتدأ فإن انتقض فكالمفتوح عنوة ويمنعون من ألقاب المسلمين كعز الدين ونحوه، ومن حمل السلاح والعمل به، وتعلم المقاتلة والدفاف والرمى وغيره وركوب الخيل، ويكره الدعاء بالبقاء لكل أحد لأنه شىء قد فرغ منه ونص عليه الإمام أحمد فى رواية أبى أصرم وقال له رجل: جمعنا الله وإياك فى مستقر رحمته، فقال: لا تقل هذا».
ثم يقول ابن تيمية: «... وليس لهم إظهار شىء من شعار دينهم فى دار الإسلام، لا وقت الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك، ويمنعون من المقام فى الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحنى...» إلى آخره.
وسئل ابن تيمية فى الخميس ونحوه من البدع «الجزء الثانى من الفتاوى»، فاستفاض فى الحديث عن أعياد المسيحيين، وأفرد لهذه الفتوى أو المسألة الصفحات من 95 إلى 101، وساق آراء أظنها غاية فى التشدد والحث على كراهية الآخر وتجنبه، ولأن المساحة لا تتسع فقد أقتصر على نقل فقرة واحدة من صفحة 100: «ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود والنصارى، واحتج بقول الله تعالى: «والذين لا يشهدون الزور» قال: الشعانين وأعيادهم، وقال عبد الملك بن حبيب، من أصحاب مالك، فى كلام له قال: «فلا يعاونون على شىء من عيدهم، لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم»!
ذلك غيض من فيض ما أتى به أحمد بن تيمية فى فتاواه.
والعجيب أن أحدًا من القدامى والمحدثين والمعاصرين لم يقف أمام كلام ابن تيمية وقفة فاحصة ناقدة للمتن، وصاروا ينقلونه جيلاً من بعد جيل، حتى أصبح عندهم أكثر أهمية من أصل الأصول، وهو القرآن الكريم، وأصبحت إذا سألت أحدهم أو انتقدت ما يذهب إليه بادرك عن فوره أن هذا كلام شيخ الإسلام وحجة الأنام أحمد بن تيمية، وكأنه لا معقب على كلماته، والعياذ بالله. فمثلا، وليس حصرًا، لم يتوقف أحد عند نص الحديث الذى ذكره ابن تيمية «لا يجتمع قبلتان بأرض»، حيث فهمها صاحب الفتاوى أن المقصود هو قبلة المسلمين وقبلة غير المسلمين.. ولم يسأل أحد نفسه عن المعنى الأكثر منطقية وقربا للفهم السليم، وهو أن المقصود وجود قبلة واحدة طالما الناس فى بلد واحد، يعنى أن القبلة فى شمال مصر المحروسة بالاتجاه الجنوبى الشرقى، وبالتالى لا يمكن أن يأتى أحدهم ويقول إن القبلة أى الكعبة فى الاتجاه الشمالى أو الشمال الشرقى وهلم جرا.. ثم إنه كان هناك وقت يتجه فيه المسلمون إلى بيت المقدس، وإذا كان اليهود والمسيحيون يتجهون إلى هناك فرضًا فقد حدث واجتمعت قبلتان بأرض! وقس على ذلك كلاما كثيرا ذكره ابن تيمية عن البلاد التى فتحت عنوة والأخرى التى فتحت صلحًا، وهو أمر مازال مختلفا عليه، لأن البعض يذهب إلى أن مصر فتحت صلحاً، وآخرون يذهبون إلى أنها فتحت عنوة، وغيرهم يذهب إلى أن بعض أجزائها كان عنوة والبعض الآخر صلحا وهلم جراً.. وكذلك فإن أحدا لم يتوقف أمام اصطدام كثير مما ذهب إليه ابن تيمية فى شأن غير المسلمين مع النص القرآنى الواضح المحكم، وسوف أفصّل الأمر فيما بعد.
وإذا كان ابن تيمية فيما ذهب محكومًا بظروف زمانه ومكانه، وهى معروفة، وقد قدم مسوغا بدرجة أو أخرى لما يقول، فإن ظروف الزمان والمكان مع شخص آخر كان أكثر شططا من ابن تيمية هو حسن البنا، كانت ظروف متغيرة لا تبيح ما اشتط فيه، وهو ما سأتعرض له فى مقالات مقبلة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة