لم تكن حياة ذلك الرجل اليهودى سهلة مطلقا.. حجرة ضيقة يعيش فيها هو وأمه وزوجه وأولاده السبعة.. لقد صارت الحياة لا تطاق وصار الانتقال إلى منزل أوسع ضرورة ملحة لكن كيف والفقر صاحبه والعوز وقلة ذات اليد رفاق دربه.. ما كان من الرجل إلا أن ذهب إلى حاخام القرية يشكو إليه حاله ويسأله المشورة.. طلب منه الحاخام أن يمهله إلى الغد حتى يأتى لزيارته وفى جعبته الحل.. جاءه الحاخام فى اليوم التالى طارقا بابه ومعه ذلك المخلوق العجيب، هل يعقل أن يُهدينا الحاخام خنزيرا؟! هكذا سأل أهل الحجرة أنفسهم فى دهشة وهم يرقبونه يدلف إلى غرفتهم الضيقة وهو يدفع ذلك الخنزير المقزز أمامه.
- «لكنها ليست هدية».
هكذا رد الحاخام على تلك التساؤلات التى تتقافز من أعين الأسرة البائسة، إنه الحل الذى طلبتموه يا سادة، الحل الذى ستفرَّج به هموم حياتكم الفقيرة.. ما عليكم إلا الاحتفاظ بهذا المخلوق فى غرفتكم أسبوعا واحدا ثم يكون لنا حديث آخر بعد ذلك. غادر الحاخام الغرفة والنظرات الذاهلة المستنكرة تلاحقه، أى حل هذا أيها الحاخام فى وجود ذلك المخلوق القذر بيننا؟ أى انفراجة فى وجود حيوان كريه ينشر نجاسته على فُرُشنا ويؤرق بخواره مضاجعنا محولا حياتنا إلى جحيم لا يوصف؟! لم تكد تنقضى المهلة حتى سارع رب الأسرة لاهثا إلى الحاخام ودخل عليه صائحا: أدركنا يا سيدى الحياة صارت لا تطاق.. أرجوك اسحب خنزيرك الذى دمر حياتنا الهانئة!!
ابتسم الحاخام ورافق الرجل إلى غرفته واسترد خنزيره ثم قال للرجل: انتظر يومين ثم ائتنى بعدهما فى المعبد.. مضى اليومان ودخل الرجل على الحاخام بوجه غير الوجه.
- مالى أراك متورد الوجنتين متهلل الأسارير؟
رد الرجل الفقير: لقد صارت الحياة جنة يا سيدى.. لكأن غرفتنا الصغيرة أضحت قصرا منيفا مترامى الأرجاء لقد كنا فى نعيم لم ندركه إلا الآن. هنا تنهد الحاخام وقال للرجل: ألم أقل لك إن هذا الخنزير هو حل مشاكلكم. أومأ الفقير برأسه سعيدا وغادر وقد اطمأنت نفسه ورضى بحياته البائسة. إلى هنا تنتهى تلك القصة القديمة التى قد يخرج منها البعض بمواعظ وحكم عن الرضا بالمقسوم والقناعة بالرزق وما إلى ذلك من أمور هى بلا شك جيدة فى مجملها وتجعل الإنسان يستطيع إكمال حياته صابرا محتسبا. لكن هل فعلا كانت عملية سحب الخنزير -كما يطلق عليها- هى الحل؟! هل كانت حيلة الحاخام الذكى تشكل الإجابة العملية لمعضلة حياة الرجل الفقير؟! هل تغير شىء فى واقعه الأليم وتحول ضيق عيشه إلى سعة وهناء كما تصور فى نهاية الأمر؟!
الجواب ببساطة: لا.
إن عملية سحب الخنزير وإدخاله ما كانت فى الحقيقة إلا مخدرا نفسيا وتشتيتا فكريا استطاع من خلاله الحاخام أن يخفض سقف طموحات الرجل وأن يكسر أحلامه فى عيش كريم يحتوى على الحد الأدنى من معايير الحياة الإنسانية والحقوق البشرية. ثمة فارق واضح بين تذكير الناس بالرضا والقناعة -وتلك معانٍ إيمانية مطلوبة ومهمة- وبين أن تكون هناك مشكلة حقيقية ويتم علاجها بالوهم والخداع فليس من حق أحد تخدير الناس وقتل أحلامهم وتمزيق أمانيهم حتى يتحسروا على السيئ ويرضوا بالهوان ويتمنوا المرَّ خوفا مما هو أمرَّ منه. إن مطالبة الإنسان بحياة كريمة ومحترمة ليست عيبا ورغبة المرء فى تحسين معيشته ليست جريمة تستدعى عقوبة أو تستحق عذابا يجعله يندم يوما على تفكيره وطموحه فى عيش أفضل ويدفعه دفعا لأن يتحسر ويترحم على تلك الأيام التى سبقت دخول الخنزير إلى حياته فيصير كل همه ومنتهى أمله وغاية حلمه أن تعود غرفته على أى هيئة كانت حتى لو كانت ضنكا وشظفا. المهم أن تكون بدون خنزير.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة