ناجح إبراهيم

مع نوران.. روح جميلة وبدن سقيم «1»

الخميس، 07 نوفمبر 2013 05:58 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى هذه الأيام قرأت ما كتبته منذ عدة سنوات عن ابنتى الصغيرة المرحومة «نوران».. فبكيت تأثراً بما كتبت.. وعزمت على نشر مذكراتى مع طفلتى الصغيرة فى عدة مقالات.. وهذه أولها:
«نوران ناجح.. روح جميلة فى بدن سقيم».. هذه هى الخلاصة التى خلصت بها من حياة ابنتى «نوران» التى أثرت فى َّ وفى الأسرة.. وفى كل من رآها أثراً كبيراً رغم صغر عمرها.
وهى التى آثرتها دون غيرها من أولادى بأن أهدى إليها كتاباً من أهم كتبى وهو كتاب - ذكريات مع الحبيب «صلى الله عليه وسلم»- .. وكتبت فى هذا الإهداء ما يلى:-
إلى ابنتى الحبيبة / نوران
التى تستعد لإجراء عملية قلب مفتوح وعمرها لا يجاوز بضعة أشهر.
والتى تعلمت منها قوله تعالى:
«وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً»
وإلى زوجتى الفاضلة التى ظننت أنها ستستريح من الكفاح.. فإذا به يتجدد
مع «نوران» فى أسمى صوره
«نوران» كان لها وجه جميل رائع وروح جذابة.. لا يقوى أحد على مقاومة جاذبيتها.. وفى الوقت نفسه كان قلبها معتلاً بعلة شديدة.. وكان عندها كروموسوم زائد.. وهو الكروموسوم رقم «21».. وهو ما يعرف علمياً بمتلازمة «داون».. وهذا الكروموسوم الزائد كان سبباً فى كل متاعبها وآلامها وأوجاعها.
وقد تعجبت كثيراً للحب الجارف الذى حظيت به من كل من رآها.. حتى تذكرت قول الرسول العظيم «صلى الله عليه وسلم»: «إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم».
وكأنما جعل الله الضعيف سبباً فى النصر.. وسبباً فى الرزق والخير والنفع والبر والثواب بل وحب الناس لمن حوله.. وذلك حتى لا يزهد أحد فى رعاية الضعيف والمريض واليتيم وكبير السن.. وحتى يعلم الجميع أن ذلك الضعيف قد يكون أقدر على نصرك من القوى.. وأقدر على جلب الرزق واليسر والخير بل والحب لك أكثر من الغنى وصاحب الملايين.
وقد رأيت ذلك مع نفسى وغيرى.. فما من مرة اشترى لها اللبن الغالى الذى كانت تشربه.. إلا ووجدت العيادة مكتظة عن آخرها بالمرضى على غير عادتها.
وما سافرت بها للعلاج فى القاهرة إلا ووجدت الأرزاق تنهال على َّ فى اليوم التالى لتعوضنى ما أنفقته فى أيام العلاج والسفر.
وقد كانت «نوران» سبباً فى تعرفى على عشرات الأسر التى أصيب أولادها بهذا المرض.. وكلهم كانوا يقولون لى: «إنهم سبب الخير لنا.. ونحن لا نفرط فيهم أبداً».
حتى قال أحدهم لى: «إننى أقول لكل أب أو أم عنده طفل من هذا النوع.. أحضره إلى َّ وأنا سأرعاه لك طيلة حياته.. فهم هدية السماء لنا».
ولقد كانت «نوران» سبباً فى صداقات إنسانية عميقة أقمناها مع كل هذه الأسر.. وما أعمق وأصدق الصداقات فى وقت المحن.
حتى إننى عاهدت نفسى أن أضيف مرضى «الداون» إلى الأصناف التى لا أتقاضى منها أجراً فى عيادتى وهم: المعتقل السياسى وحامل القرآن واليتيم والمرأة المعيلة.
وقد صارت عندى خبرة كبيرة أكثر من أى طبيب أطفال متمرس فى معرفة مريض «متلازمة داون» من أول نظرة.
وفى ذاكرة تليفونى أرقام عشرات الأسر ممن تقابلنا فى كل مستشفى ذهبنا إليه فوجدناهم فى أقسام القلب أو الباطنة أو الجراحة أو العلاج الطبيعى.
لقد تعلمنا من «نوران» الكثير رغم صغرها.. تعلمنا منها الصبر العظيم على الألم.. فقد كان كل شىء فيها يتألم تبعاً للثقوب الكثيرة فى قلبها وكبر حجم هذا القلب.. وارتفاع الضغط فى الشريان الرئوى.
وكنت أعجب فى نفسى وأقول: «هذه الطفلة الصغيرة تعالج من الضغط بالكابوتين واللازكس».. وكان كل منهما يسبب لها الصداع والإمساك.. فكلما أرادت أن تتبرز شعرت وكأنها تلد.. فإذا أوقفنا هذا العلاج لم تستطع التنفس بيسر وسهولة لارتفاع الضغط فى الشريان الرئوى.
وكان قلبها يدق بعنف وبقوة وسرعة عجيبة فيهز صدرها وبطنها، ورغم ذلك فإن بعض الأطباء الاستشاريين فى الأطفال لم يعرفوا حالتها، إلا بعد أن اكتشفها أ.د/ ممدوح غندور بإيكو القلب.
ومن الأقدار العجيبة أن الذى كان يعالج شقيقى المرحوم أحمد كان أ.د/ أشرف غندور أستاذ أمراض الدم.
فقلت فى نفسى: «كلاهما غندور.. وكلاهما عالم متمكن وشريف ونظيف اليد.. وقد توفى أخى أ/ أحمد من قبل.. فماذا سيكون شأنك يا نوران يا ابنتى؟ يبدو أن مصيركما سيكون واحدا»ً.. كل ذلك كان فى نفسى.. ولم أطلع عليه أحداً.
وكلا الرجلين أعطى لشقيقى المرحوم/ أحمد وابنتى نوران تحويلاً بإجراء العمليتين الجراحيتين الخطيرتين على نفقة التأمين الصحى.. ولكن أخى المرحوم/ أحمد سعيد مات قبل العملية.. وابنتى «نوران» ماتت بعد العملية الجراحية بيوم واحد.
لقد حملت زوجتى بـ«نوران» ونحن فى حالة من اليسر النسبى فأجرينا لها فحوصات الحمل الدورية.. ولكن أخصائية الولادة مثل غيرها من الطبيبات لم تكتشف شيئاً.. وكل كلامها الجنين ممتاز وقلبه ونبضه سليم.... و.. و.. من الكلمات الروتينية التى يقولونها عادة ولا يكتشفون أى حالة مرضية حقيقية فى الأجنة.
وهذا شأن %99 من طبيبات النساء والتوليد فى مصر.. لأن كل أجهزة السونار عندهن من ماركات قديمة جاوز عمرها أكثر من عشرين عاماً.. ونادراً ما تجد طبيبة تجدد هذه الأجهزة أبداً.. رغم أنهار الأموال التى تتدفق عليهن.. وذلك لعلة بسيطة أنها لا تريد أن تنقص من دخلها مليماً واحداً.
وقد تمت ولادتها أيضاً فى مستشفى خاص.. وهى الوحيدة من أولادنا التى تمت لها هذه الرعاية فى الحمل والولادة فى مستشفى خاص.. فكل الذين سبقوها ولدوا فى مستشفيات عامة أو فى البيت.. وما أدراك ما هذه.. أو تلك.. وذلك نظراً للظروف المادية الصعبة التى كنا نمر بها وقتها.
والغريب والعجيب أن «نوران» التى تلقت كل هذه الرعاية الطبية والعناية الكبيرة فى الحمل والولادة، ولدت بهذه المشاكل الصحية الكبيرة فى القلب وفى الكروموسومات، وفى كل شىء.
فقلت: «سبحان الله !!».. لقد كانت تظللنا وأسرنا العناية الإلهية حينما كنا لا نملك من حطام الدنيا شيئا.. وحينما كانت زوجتى وحدها تصارع الحياة وتصارعها متاعبها.. وتقف فى طابور طويل من طوابير المستشفيات العامة.. وتبيت مع كل من يمرض من أبنائها فى المستشفى.
فكيف لو كانت نوران جاءت فى هذه الأيام؟!! وهى تحتاج فى كل لحظة لعناية ورعاية وعلاج ودواء وأموال كثيرة.. وصبر جميل.
لقد كانت زوجتى تقول لى: «الحمد لله أنك معى فى هذه المحنة.. وإلا لانهرت مع كل تعب تتعبه..ومع كل ألم تتألمه».
وقالت: «إننى كنت أبكى بكاء ً شديداً حينما كنت وحدى حين يمرض أحد أولادى وأنت فى المعتقل.. وأحياناً يمرض اثنان فأبيت مع أحدهما فى المستشفى.. وتبيت شقيقتى المهندسة مع الآخر».








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة