الاندهاش أول مرة يكون مباحاً، لكن كثرة الاندهاش مأساة، ولايمكن أن نظل مندهشين من المواقف المتناقضة لأمريكا، أو نبقى مندهشين من الخطاب وعكسه، والتصرف ونقيضه، فعالم السياسة تحكمه المصالح. وأحيانا يكون الظاهر غير الباطن. وبالتالى لايمكن الرهان على مساندة أمريكية لأى نظام مالم يحصل هذا النظام على شهادات صلاحية من الشعب، وقد كان نظام مبارك كثيراً مايلجأ إلى الشهادت الخارجية ليبرهن على نجاحه الاقتصادى، وارتفاع نسب النمو، بينما كان المواطنون لايشعرون بأى نمو.
وكانت الإدارات الأمريكية المتوالية تدعم الأنظمة العربية و«العالمثالثية» القمعية والمستبدة، بالرغم من أن الشعوب كانت تعانى، واكتفت أمريكا بمطالبات غير مكلفة. بل إن الأنظمة الأمريكية والغربية ربما لا ترى أن الشعوب العربية تستحق الديمقراطية الموجودة فى الغرب. وأنه يكفيها أشكال انتخابية تأتى بحكام يحفظون مصالح الغرب.
وهناك تحليلات تذهب إلى أن أمريكا تحالفت مع الإسلاميين ربما لرغبة فى تجريب أنظمة جديدة. يمكنها أن تستقطب الإرهابيين من أنحاء العالم وتتحكم فيهم وتجعلهم تحت السيطرة، وأن يكون ذلك فى مصر وتونس، باتفاقات مع تركيا ودول إقليمية أخرى. كان هذا أحد الآراء التى فسرت الانحياز الأمريكى لتجارب الإسلام السياسى وهى انحيازات فى حال صدقها تعنى أن أمريكا تريد إبعاد الجماعات والتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وتحويل مساراتها لتصبح تحت السيطرة الأمريكية.
ولا ننسى أن أمريكا وتحديدا المخابرات الأمريكية هى التى دعمت ودربت القاعدة لمواجهة السوفييت، وبأموال خليجية، وكان هذا لمواجهة الغزو السوفيتى، ولما انتهت الحرب الباردة، تركت القاعدة، حتى فوجئت بالتنظيم يعمل ضد المصالح الأمريكية، وشنت حربها على الإرهاب. لكنها لم تقض على القاعدة تماماً، وكان اغتيال بن لادن بداية مرحلة جديدة من العلاقة بين الولايات المتحدة والقاعدة، التى توقفت عن أى عمليات ضد المصالح الأمريكية، وتوجهت أغلب خطابات زعيمها الجديد أيمن الظواهرى لمصر والدول العربية، فيما بدا أنه تحول واضح، خاصة وإذا رجعنا إلى القاعدة والتنظيمات الإرهابية فى سيناء أو العراق، يلفت النظر أن عملياتها تتكلف ملايين، وبالتالى فإن التساؤل عن مصادر تمويلها، يفتح الباب إلى أن هذه التنظيمات تعمل بالوكالة أو أقرب للمرتزقة، تنفذ عمليات لمن يمول ويدفع.
من هنا فإن ما يبدو على السطح من مواقف أمريكية يخفى وراءه الكثير من التفاصيل المعقدة التى لايمكن قراءتها من وجه واحد، ولعل أكبر مثال على تعقيد العلاقات الأمريكية، هو التجسس الأمريكى على دول العالم، بمافيها أوروبا والدول الصديقة والحليفة. وهى فضيحة تشكك كثيراً فى المبادئ الأمريكية المعلنة حول الحرية والخصوصية، وحتى التجسس وصل إلى المواطنين الأمريكيين وهو أمر ثابت بأحكام قضائية وشهادت لمسؤولين أمريكيين. وكانت حجة الإدارة والأجهزة الأمريكية هى مكافحة الإرهاب، بينما أمريكا نفسها فى العلن تدين مثل هذه التصرفات لو خرجت من أى نظام آخر.
إنها الازدواجية التى تحكم السياسات الأمريكية دائماً، وتجعل من الصعب التمييز بين الخطاب الأمريكى الظاهر، وبين توجهات المصالح التى تحكم سلوك الولايات المتحدة. التى تتجسس وتحرم التجسس على الآخرين. وتدعم التسلط، بينما تدعو للديمقراطية.