"لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا " كانت رسالة عرابى واضحة أن الشعب المصرى لا يورث ولا يستعبد فى وقت كان الصراع على المحروسة على أشده بين قوتين استعماريتين هما بريطانيا وفرنسا وقاد مظاهرة من أفراد الجيش وحمل خلالها مطالب هذا الوطن على الخديو توفيق بعد أن شعر بكم القهر والفقر الذى يعانيه الشعب وكان الجيش المصرى هو القوة التى يحتمى بها الفقراء وكان ضباطه يشعرون أنهم يحملون مسئولية وطنية عن هذا الوطن، ككيان وعن فقراء ومهمشين ليس لهم من ناصر ولا معين سوى الله.
كانت القضية قضية سيادة واستقلال فعلى الرغم من استجابة الخديو لمطالب عرابى، إلا أن القوى الاستعمارية لم تكن لتمكن مجموعة من الضباط يحملون على عاتقهم استقلال هذا الوطن وأن يكون قراره معبرا عن شعبه بأن يفرضوا إرادتهم فعمدوا إلى عرقلة وزارة شريف باشا، الذى ما أن كون وزارته حتى عمد إلى وضع دستور جديد للبلاد، إلا أنه تم عرقلة هذا الجهد الوطنى واضطر للاستقالة بعد تدخل سافر وأمام الغضب الشعبى اضطر الخديو إلى تسمية محمود سامى البارودى الرجل العسكرى إلى تشكيل وزارة حتى تهدأ العاصفة، وقام البارودى بإسناد مهمة الجيش إلى أحمد عرابى، وكانت خطوة تعبر عن الإرادة الشعبية لكن من كان يظن أن يسمحوا للمصريين بفرض إرادتهم ومع أول خلاف بين البارودى والخديو تحرك الأسطول البريطانى والأسطول الفرنسى إلى الشواطئ المصرية، وكأنه قد تم اتخاذ قرار إقالة وزارة البارودى مسبقا وكانوا يقولون وقتها إنهم سيحمون رعاياهم وعندما وصلوا للشواطئ المصرية، بعثوا برسالة غريبة جدا، مفادها أن يتم إقالة الوزارة واستبعاد أحمد عرابى، من الجيش !! وكأنهم يعرفون هدفهم بأن هذا الرجل خطر عليهم وأن يستبعد أيضا على باشا فهمى، وعبد العال باشا حلمى، وهما من قادة الجيش وكأن جيش مصر هو الذى يجب إبعاده عن المشهد برجاله!
كان البارودى لا يزال يأمل أن يقف الخديو فى صف الإرادة الوطنية لكن المفاجأة أنه وقف مع القوتين ورفض أن يقف مع حكومته ولم يقبل رئيس الوزراء بذلك فاستقال احتجاجا على موقف الخديو! لكن فيما يبدو أن الشعب المصرى قد قال كلمته إلا عرابى ! هكذا لم يستطع أن يبعد البطل المصرى بعد أن رفض حامية الإسكندرية إبعاد عرابى!
كيف يبقى عرابى؟ ! الأمر يحتاج إلى قلائل ومذبحة وفوضى على الأرض !
الأمر يحتاج إلى قتل واشتباكات ودم حتى يبرروا تدخلهم ويحتاج إلى أن يفتعل أحد الرعايا البريطانيين مشكلة ويقتل مصريا فيتطور القتال ويسقط العشرات بين قتيل وجريح وتم ضرب الإسكندرية بكل قسوة واستسلمت المدينة بينما ذهب عرابى بقواته إلى كفر الدوار لإعداد الجيش لمعركة أتت إليه، ولم يذهب هو إليها أما الخديو فقد اختار المعسكر الأقوى وأرسل لعرابى رسالة يأمره فيه بالكف عن الاستعداد للقتال، وهنا أدرك أنه يحتاج لدعم كل فئات المجتمع أمام الخديو فدعا لجمعية وطنية تضم أعيان البلاد والمشايخ والأمراء وقيل إنهم تجاوزوا 400 شخص وأجمعوا على تكليف عرابى بالمضى قدما للمعركة.
إن معركة كفر الدوار كانت من المعارك التى تجلت فيه البطولة العسكرية للجيش المصرى، ورغم اختلاف التسليح بين الجيش المصرى الذى كانت أسلحته تقليدية نوعا ما، وبين قوة مسلحة بأحدث أنواع التسليح وقتها، إلا أن الجندى المصرى نجح فى الانتصار على القوات الإنجليزية وتم أسر العديد من تلك القوات مما أجبرها على الانسحاب إلى الإسكندرية مرة أخرى، ومما يذكر أن كثيرا من أبناء البحيرة قد سقطوا فى المعارك.
الاجتماع الثانى للجمعية الوطنية المصرية، والذى ضم شيخ الأزهر وقاضى القضاة ومفتيها ونقيب الأشراف وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود والنواب والقضاة والمفتشون ومديرو المديريات وكبار الأعيان والعمد وهؤلاء كانوا بمثابة جمعية عمومية للشعب المصرى، وفيه اتخذ قرارا بالإجماع برفض قرار الخديو عزل عرابى وهنا تبدو ملاحظة مهمة جدا بأنه دوما ستنحاز القوى الشعبية لمن يحاول الدفاع عنها بينما ستبتعد عمن يحاول كسر إرادة هذا الشعب وملاحظة أخرى أن المزاج الشعبى لا يميل لمن يرمى نفسه فى حضن القوى الغربية وملاحظة أخيرة أن العلاقة ما بين الجيش والشعب هى علاقة تاريخية.
صاغ المصريون مثلا يعبر عن حقيقة ما جرى فقالوا الولس كسر عرابى فالخيانة دائما ما تجعلك على مشارف الهزيمة، ولا أعرف هل هتفوا يسقط حكم العسكر وقتها أم لا لكن من المؤكد أنهم سعوا لهزيمة الجيش وتحميله مسئولية الدماء التى سقطت وهناك من المؤكد من هتف بأنهم أورطونا فى حرب مع قوة عظمى وراحوا ينسجون الأساطير حول القوة البريطانية ومن المؤكد أنهم رفعوا فرمان الباب العالى العثمانى بعزل عرابى وقالوا إنه لا شرعية له وأن مولانا السلطان مالك البلاد والعباد قد عزله بعد الخديو.
المغامرة المصرية كان لا بد أن تقتلها الخيانة فدليسبس الفرنسى عجز عن تنفيذ وعده بمنع القوات من عبور قناة السويس واستطاعت القوات دخول البلاد من تلك البوابة بعد أن ارتدت على نفسها خائبة فى معركة كفر الدوار وانهزم الجيش المصرى فى معركة كانت محسومة والفائز فيها، كان الغدر والخيانة وتم القبض على عرابى، الذى قال لا للاستعباد ونعم للاستقلال الوطنى.
سينسجون كثيرا من الأكاذيب حول الرجل وسيقلبون الحقائق وسيقولون لك إنه كان سببا فى الاحتلال البريطانى ولن يقولوا لك أنهم كانوا سيأتون على أية حال وسيقولون لك أنه كان غير شرعى لأن الخديو عزله وهو ولى الأمر وطاعته واجبه وسيقولون لك إنه دمر وطنا وتسبب فى سفك دماء شعبه، لكنهم لن يقولوا لك أبدا أنهم كانوا يخدمون أسيادهم من المحتل الطامع بثروات البلاد ولن يقولوا لك إن الحزن قد عم المصريين جميعا بعد الأحكام غير الشرعية، التى حكموا بها، على عرابى ورفاقه وأنهم أمدوهم بما امتلكته أيديهم، وإن كان قليلا وظلوا قصة تتحاكاها الألسن عن بطل لم يقبل الإهانة على شعبه.
من كان يظن أن قامات وطنية مثل عبد الله النديم ومحمود سامى البارودى، ينفون من الأرض المصرية إلى سيرلانكا وهم من كانوا يحلمون باستقلال هذا التراب، عن القوى الاستعمارية وانتهت قصة الثورة العرابية فى تاريخ مصر لكن لم تنته قصة الاستقلال الوطنى وبقى الجيش المصرى متلاحما مع شعبه وبقيت عقيدته على مر التاريخ.
ثورة عرابى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة