كانت علاقة نجيب محفوظ بالسياسة أقرب إلى علاقة الأغلبية الصامتة، كان شاهدًا أكثر منه مشاركًا.. يرى أننا لا نصنع الواقع.. آراؤه السياسية المباشرة غالبًا ما كانت تثير عليه الغضب والانتقادات، وفضّل أن يتم الحكم عليه من أدبه، وحتى هذا كان محيرًا لمن يمتلكون رؤية واحدة ويقينًا قطعيًا، فهو يرى عالم البشر نسبيًا، يحمل الشىء ونقيضه، ونحن لا نعيش فى عالم مثالى، وهذا العالم لم يوجد إلا فى الخيال وفى الأساطير، بينما السياسة هى عالم الأوغاد «بت أعتقد أن الناس أوغاد لا أخلاق لهم، ومن الخير لهم أن يعترفوا بذلك، ويقيموا حياتهم على دعامة من هذا الاعتراف، وهكذا تكون المشكلة الأخلاقية الجديدة هى: كيف نكفل الصالح العام والسعادة البشرية فى مجتمع من الأوغاد؟». ربما تكمن فى الإجابة عن هذا السؤال حقيقة عالم السياسة الذى يختزن المناورة والمصالح والانتهازية.
نجيب محفوظ واقعى يفهم بالسياسة التى لم يمارسها أبدًا، ولم ينضم إلى تنظيمات، كان أقرب إلى اليسار والوفد، ممثلًا فى سعد زغلول، ومن بعده النحاس، لكنه أيضًا لم ينتم إلى أى حزب أو تنظيم، لكنه أيضًا ابن الطبقة الوسطى، آمن بالوطنية والعلم والحرية والعدالة والتسامح، يسارى ويمينى وثائر وموظف.. متصوف وليبرالى على الطريقة المصرية، لكنه لم يتنازل عن إيمانه بالحرية والعدل، ولم يمنع الآخرين من أن يبحثوا عما يريدون.
وبالرغم من أنه كان يفضل الاستقلال كأديب، فإنه كان غالبًا ما ينتقد فكرة المستقلين فى السياسة، ويراها مفتعلة وغير حقيقية «المستقل فى هذا العصر هو من ليس يمينيًا ولا وسطيًا ولا يساريًا، وبحكم رواسب الماضى لم أرتح لصفة الاستقلال بالمعنى السالف، ولعل مرجع ذلك إلى الدور الذى لعبه المستقلون فيما قبل ثورة يوليو، فقد ترفعوا فى الظاهر عن الانتماء إلى الأحزاب القديمة، ونأوا بأنفسهم عن الصراع الحزبى بكبرياء التعفف، أو تعفف الكبرياء، ولكنهم كانوا فى الواقع أعجز من أن يخوضوا صراعًا أو يواجهوا الجمهور، أو يتعرضوا لخسائر المعارك، فلاذوا بما سموه الاستقلال، ولعبوا لعبة ماكرة بين الأحزاب يساومون هذا وذاك، وينتفعون بهذا وذاك»
الطبقة الوسطى هى الموضوع الأهم لنجيب محفوظ.. وإن كان تعرض للحرافيش والفقراء والمهمشين، فإنه نظر إليهم من نافذة الطبقة الوسطى، ويرى الحرافيش رمزا للمستسلمين فى انتظار فتوة، وحتى عندما أنهى «عاشور» عصر الفتوات فقد عادوا، حتى لو لم يباركهم الحرافيش. فالبحث عن العدل رغبة لدى الحرافيش مصحوبة باستسلام يجعلهم مفعولًا بهم، وليسوا فاعلين فى سياق العالم السياسى. وبالتالى فإن انتصار الحرافيش والثورة أقرب إلى الحلم، وإن كان حلمًا مطلوبًا لأن يشعل أشواق التغيير «لا يمكن أن يتلاشى حلم كهذا كأن لم يكن، لا يمكن أن تشتعل أشواق بهذه القوة دونما سبب أو غاية، لا بد أن يصل العاشق، بالعقل أو بالجنون، لابد أن يصل.. ولكن ما أضيع الباحث بلا دليل»، فهو يرى أن ضياع الهدف أخطر أنواع الضياع.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة